ماجدة الرومي: اللبنانية الأولى

مدة القراءة 5 د


انتزعت فتوى موسيقية حزبية سلطوية، من أغنية “يا بيروت”، الجملة الشهيرة: “إنّ الثورةَ تولد من رحم الأحزان” من قصيدة نزار قباني الشهيرة التي غنتها السيدة ماجدة الرومي خلال الاحتفال بعيد الجيش، واستبدلتها بلغو صوتي يكرر”لا لا لا لا”. منذ تلك اللحظة اتخذت تلك العبارة شكل النبوءة والقدر.

جاء تفجير مرفأ بيروت،  ليضيف إلى ثقلها الدلالي بعداً جديداً، وكأنّها باتت رصداً لمستقبل البلد ومصيره. وكان لا بدّ لماجدة الرومي أن تمزج بين صورتها وبين صوتها، وبين بيروت ومرفئها، فنزلت تجوب الأحياء المدمّرة ظهر أمس.

إقرأ أيضاً: مديح الذلّ… “الواطي”!

لم تجد “اللبنانية الأولى” خلال جولتها التفقدية في أحياء بيروت المدمرة، ما تجيب به عن سؤال حول ماذا يمكن أن تقول لبيروت سوى أن تكرر هذه العبارة نفسها واصفة إياها بأنها لا تُمحى: “إنّ الثورةَ تولد من رحم الأحزان”.

أعادت الفكرة نفسها كجواب على كل ما طرح عليها من أسئلة، مشدّدة على الجانب اليقيني الذي تؤمن أن لا شيء سواه سيحكم مصير المدينة ويكتب سيرة مستقبلها، وأصرّت على ربط كل هذا البعد اليقيني بثورة تولد من رحم أحزان تحاصر العيون والقلوب.

احتقار السياسيين وتجريمهم بلغ مع انفجارالمرفأ نقطة اللاعودة، وهذه النقطة اسمها الفعلي هو الثورة

حاول المراسلون جرّ الفنانة الكبيرة إلى دهاليز السياسة ولكنها كانت تنجو دائما من هذا الفخّ، من خلال اللجوء الدائم الى الفن. الجملة التي اختارتها كرسالة وخطاب نهائي لم تكن بياناً سياسياً بل شعراً، وبذلك كانت قادرة في هذه اللحظة على حمل جملة من المعاني لا تستطيع السياسة مقاربتها ولا التعبير عنها.

لكنّها بعثت رسالةً بدت موجّهة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي غنّت له حين حوصر في قصر بعبدا العام 1989: “حاصر حصاركَ”. قالت التالي: “نعتذر من الجيل الجديد الذي لم نسلمّه بلداً سيّداً حرّاً مستقلاً.. كنا ذاهبون في هذا الاتجاه ولا أعرف ما الذي جرى”.

ما تجلّى بوضوح تام من خلال رصد ردود أفعال اللبنانيين على الكارثة التي حلّت بمرفأ بيروت كان كفرهم التام بالسياسة وبالسياسيين، وبكل ما يتصل بها وبهم من مفاهيم وقيم، لذا أبرزت زيارة السيدة ماجدة الرومي تلك الحاجة الكبرى إلى ما يمكن للفنّ تقديمه في هذه اللحظة، وهو القدرة على إعادة إنتاج الواقع وتغييره من خلال تقديم مقاربة جديدة له.

لم تزرع السيدة ماجدة الرومي وهماً شعرياً، بل ذكّرت بالأمل الكامن في ثورة باتت كل أسبابها وظروفها وموجباتها قائمة وحية، بل تشكّل الخيار الوحيد الذي لا غنى عنه للبقاء على قيد الوطن وعلى قيد الحرية وعلى قيد الوجود.

احتقار السياسيين وتجريمهم بلغ مع انفجارالمرفأ نقطة اللاعودة، وهذه النقطة اسمها الفعلي هو الثورة. لعلّ مقارنة استقبال السيدة ماجدة الرومي والترحيب الذي لاقته وكيفية تلقي حديثها وحضورها، مقارنةً بالتعامل مع وزيرة العدل ماري كلود نجم، يفيد في التأكيد على أنّ السياسين قد تحوّلوا في نظر اللبنانيين إلى وباء يجب القضاء عليه بلقاح ثورة ” تشيل ما تخلّي”.

خلال جولتها التفقدية على أحياء بيروت المدمرة تعرّضت وزيرة العدل لوابل من الشتائم والرشق بقناني المياه الفارغة من قبل مجموعات من المتظاهرين الغاضبين مع شتائم من العيار الثقيل لشخصها، وهتافات “يسقط يسقط حكم الأزعر”، كما اعتبروا أن هذه الزيارة تحمل قدراً كبيراً من الوقاحة، فخاطبوا الوزيرة قائلين لها: “ما تحكي معنا جايي عالمدينة اللي دمرتيها”. وقد علمنا أنّها حوصرت 4 ساعات في مدخل مبنى سكني حيث اختبأت من الناس، قبل أن تصل دورية أمنية لتأخذها بحماية شديدة، خوفاً من أيدي الغاضبين وألسنتهم.

لم يسبق لهذه الراديكالية الشرسة في التعاطي مع السياسيين أن تبلورت بمثل هذه الحدّة والشمولية قبل هذه اللحظة.

يحيا اللبنانيون الآن زمن خطبة طارق بن زياد الشهيرة: “فالبحر من ورائهم والعدوّ من أمامهم”. وهو عدوّ واضح الملامح ومعروف، يجاهر بوقاحته ويفاخر بإجرامه

قد يعود السبب في ذلك إلى أنّ هول الكارثة حرّر اللبنانيين من المخاوف والأوهام، من الحسابات والأماني، وخلق وعياً نجح في أن يحقّق في لحظة ما كان يحتاج إلى الكثير من الوقت والتراكم، كي يستطيع إنتاج حالة صحية مثل الحالة التي نشهد تفشّيها الناري في كل ما يصدر عن اللبنانيين من كلام على شاشات التلفزة أوعلى مواقع التواصل الاجتماعي.

ينحاز اللبنانيون الآن إلى ماجدة الرومي، ويتعاملون مع ندائها لبيروت بوصفه البيان الثوري رقم واحد في لحظة الانهيار الكبير الذي يبشّرنا به أقطاب السياسة.

انفتحت حاليا محكمة شعبية ميدانية، ولم تتأخّر في إصدار حكمها لأنّ القاتل معروف. وكان كان كل هذا التأخر في تسميته والحكم عليه نابعاُ من معادلات سقطت بسقوط الجدار الرمزي الأخير في المدينة.

يحيا اللبنانيون الآن زمن خطبة طارق بن زياد الشهيرة: “فالبحر من ورائهم والعدوّ من أمامهم”. وهو عدوّ واضح الملامح ومعروف، يجاهر بوقاحته ويفاخر بإجرامه، لا بل أكثر من ذلك يعلن أنّه يستطيع إدارة أزمة لا عنوان فعليا لها خارج ما تسبب به من كوارث.

لم تلقِ السيدة ماجدة الرومي خطاباً بل اختصرت الخطابات جميعها. قالت بوضوح تام إنّ ما اجتهدت السلطة لدفنه من لغة الثورة سيصبح اللغة الوحيدة التي سيخاطب بها اللبنايون هذه السلطة، ولا شكّ أنّهم سيجدون الدعم والتأييد من كل العالم.

بدت ماجدة الرومي أمس، السيّدة الوحيدة المسموح لها التجوّل في شوارع بيروت، الممنوعة على الوزيرات وعلى نساء الرؤساء والسياسيين.

كانت أمس السيّدة الوحيدة، بل قُل: السيّدة الأولى.

 

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…