حكومة بتسوى “مايكرويف”

مدة القراءة 3 د


لي هواية لم تفارقني منذ سنوات، وهي تصفّح الجريدة الرسمية كلّما استطعت إلى ذلك سبيلاً. فتلك الجريدة شبيهة بـ”تركيب المقلة” لكن ليس أيّ “مقلة”. وإنّما “مقلة” الدولة، بحيث تُطلعك على كلّ “القلاقل” التي تحصل في الإدارة ومن “تحت لتحت”، وتكشف لك زواريب البيروقراطية بكلّ تفاصيلها.

من خلالها تستطيع الاطّلاع على الشركات التي وُلدت حديثاً، ومن أنشأها، فتستشفّ لأيّ غايات فعلوا ذلك ووفق أيّ ظروف وأيّ توقيت. وعبرها تطّلع على قرارات الوزارات كلّها وعلى أهمّ إنجازات المؤسّسات الرسمية وعبقرية البلديات… يعني تطّلع بالمختصر المفيد على تخبيصات السلطة كلّها وإخفاقاتها.

قبل أيام تسنّى لي الاطّلاع على العدد الأخير من تلك الجريدة بعد انقطاع. وبينما كنت أقلّب صفحاتها البيض ذات اليمين وذات الشمال، وقع تحت ناظري خبر يخصّ وزارة الخارجية، ومفاده أنّ سعادة وزير الخارجية عبدالله بوحبيب ونظيره وزير الماليّة يوسف خليل اقترحا قبول “هبة” عبارة عن فرن “مايكرويف”، مقدّم من أحد المواطنين الأميركيين من ذوي الأصول اللبنانية على ما يبدو، واسمه عادل أحمد دخل الله.

الهبة مقدّمة إلى قنصلية لبنان العامّة في ديترويت في الولايات المتحدة الأميركية، ووافق عليها مجلس الوزراء بقضّه وقضيضه، وقيمتها نحو 300 دولار أميركي، أي ما يعادل 4.5 ملايين ليرة على سعر الصرف الرسمي 15 ألفاً (هكذا مكتوب في القرار).

يبدو أنّ الهيئة القنصلية في ديترويت تأكل طعامها “ع البارد”، فتحنّن عليها السيّد دخل الله (جعلها الله في ميزان حسناته) وقدّم لها ذاك الـ”مايكرويف” من طراز GE. هكذا مكتوب أيضاً في القرار، ويبدو أنّه طراز صيني، وهو ما يعني أنّ دخل الله “أكل الضرب” ومن غير المستبعد أن “تلبصه” القنصلية بـ”مايكرويف” آخر بعد أشهر!

قرأت الخبر ولم أصدّق. ثمّ سرح خيالي في تصوّر كيف سلكت الآليّة الدبلوماسية طريقها حتى وصل قرار الهبة إلى مجلس الوزراء… مراسلة بحقيبة دبلوماسية مع شرح وتفاصيل إلى وزارة الخارجية، ثمّ طباعة أوراق وزحمة تواقيع، ثمّ مراسلات وبريد إلى مجلس الوزراء وصولاً إلى إدراج هذا البند والموافقة عليه ضمن جملة من قرارات تافهة من هذا الشكل…

إقرأ أيضاً: “الصندوق السياديّ”… أو مارسيدس “القطش”؟

يعني خلاصة الأمر أنّ الكلفة البيروقراطية وبدل حبر وأوراق ومراسلات من أجل قبول تلك الهبة هي أعلى من الهبة نفسها المقدّرة بـ300 دولار! (الله يجرّصكم)، ولو زرع قنصل ديترويت ذاك الـ”مايكرويف” في مطبخ القنصلية “من سكات” ثمّ رماه في المهملات عندما يخرب، لكان أوفر وأستر و”أشطف زوم” من تناقل خبر سخيف كهذا.

بل أكثر من ذلك، سألت نفسي: أإلى هذا الحدّ حكومتنا حريصة ودقيقة؟ أَإلى هذا الحدّ قنصليّاتنا في الخارج لا تقبل “مايكرويف” إلا بعد إخطار الخارجية وموافقة مجلس الوزراء؟ بل أإلى هنا وصل بها الأمر، إلى شحادة “مايكرويف” من السيّد دخل الله أو غيره من المواطنين؟ وكم “دخل الله” تحتاج تلك السلطة حتى تعيدنا مجدّداً إلى الخارطة كدولة غير “شحّادة”؟

حدا يخبّرنا دخل الله…

*هذا المقال من نسج خيال الكاتب

لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…