بين رامبو وأرطغرل: السحر الطاغي للعضلات

مدة القراءة 5 د


لم يُحظ مسلسل أو عمل فني أُنتج في منطقة الشرق الأوسط بمثل الشعبية الجارفة التي حصل عليها مسلسل “قيامة أرطغرل”. تشير الأرقام إلى حجم مشاهدات عالمي خيالي ناهز الثلاثة مليارات، وإلى خريطة انتشار تشمل 85 دولة، كما ترجم إلى 25 لغة، وحقّق أرباحاً بقيمة مليار دولار. وأكثر من 60 دولة اشترت حقوق البثّ. يضاف إلى ذلك قيام منصة العرض الأكثر شهرة في العالم “نتفليكس”  بشراء حقوقه، وعرضه كاملاً مع ترجمة عربية.

كان لافتاً أنّ القراءات الفنية في المسلسل قليلة، وأن جلّ القراءات حرصت على النظر إليه من الزاوية السياسية

إزاء كلّ هذه الأرقام غير المسبوقة تحوّل المسلسل إلى ظاهرة عالمية بامتياز، ما أطلق موجة محمومة من التفسيرات والتحليلات، حرص أصحابها على تفسير أسباب هذه الجماهيرية الواسعة.

كان لافتاً أنّ القراءات الفنية في المسلسل قليلة، وأن جلّ القراءات حرصت على النظر إليه من الزاوية السياسية، واتهامه بأنّه بروباغندا أطلقها “حزب العدالة والتنمية” الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وجد أصحاب هذا التفسير ضالتهم في الإعجاب العلني الذي أبداه الرئيس أردوغان بالمسلسل. فبعد الأزمة التي رافقت رفض أبطال العمل لجائزة “الفراشة الذهبية”، اعتراضاً على منعهم من الكلام، بعدما اعتبروا الأمر إهانة، قام الرئيس أردوغان بالدفاع عنهم. ألقى خطاباً في هذا الصدد استعمل خلاله ما وصفه بأنّه مثل إفريقي قديم قائلاً: “طالما أنّ الأسود يسطّرون حكاياتهم، فإنّ الفرائس مُجبرة على الاستماع لحكايات الأبطال. هذا المسلسل فتح الطريق لقلوبنا”.

شعبية شخصية “رامبو” عبرت كلّ الحدود والثقافات، وتحوّلت إلى واحدة من أشهر أيقونات الثقافة الشعبية حول العالم

حصر نجاح عمل فني في السياسة يعيد إلى الأذهان حادثة استعمل فيها الرئيس الأميركي رونالد ريغن في الثمانينات الشعبية الجارفة التي نالها فيلم “رامبو”، حين تعمّد التحدّث إلى أحد مرافقيه في مناسبة عامة أمام أجهزة الصوت المفتوحة قائلاً له: “ربما يجب علينا الإسراع في مشاهدة فيلم رامبو”.

قيل آنذاك إنّ شعبية أفلام “رامبو” تُختصر في أنها تمثّل خطاب اليمين الأميركي، وتعكس أفكار الحزب الجمهوري، ولا شيء غير ذلك، ولكن ذلك التفسير بدا عبر الزمن مجافياً للحقيقة، لأنّ شعبية شخصية “رامبو” عبرت كلّ الحدود والثقافات، وتحوّلت إلى واحدة من أشهر أيقونات الثقافة الشعبية حول العالم.

الأمر نفسه ينطبق على تفسير شعبية مسلسل “قيامة أرطغرل”، فهو نجح في اختراق العداوات السياسية في الدول الإسلامية، وعُرض في العديد من البلدان التي لا تنسجم أفكارها أو سياساتها مع أفكار وسياسات “حزب العدالة والتنمية”. هكذا تحوّل التفسير السياسي إلى نوع من التبسيط، الذي لا يقدّم قراءة تسهم في إلقاء الضوء على نجاح المسلسل في اختراق الحدود والثقافات، والتحوّل الى أيقونة.

سحر التكرار

يروي المسلسل على امتداد مواسمه قصة واحدة. هو ليس مسلسلاً تاريخياً بالمعنى التقني، بل يخلط التاريخ بالدراما والخيال. وهو يروي سيرة زعيم قبيلة “قايي” التركية، من مسلمي “الإيغوز”، في القرن الثالث عشر،  وحروب القبيلة أمام السلاجقة والبيزنطيين والمغول.

المسلسل يكرّر المشكلات على الدوام مع تغيير نوع التعقيدات والصعوبات والمواقف التي يتعرّض لها البطل أرطغرل. السياق يبقى نفسه، فلا وجود لخطوط متعرّجة ولا انقطاعات مفاجئة في السرد، أو مفاجآت تطال طبيعة القصة، فتُدخل عليها عناصر تنسف سياقاتها، كما هو الحال في العديد من المسلسلات.

يتبع المسلسل نظام سرد تقليدي، ولكنّه ثابت ومتين. يخبر الجمهور القصة التي يتوقّع أن يخبره إياها تماماً. وبذلك، فإنّه يدخل في تماس مع المألوف والحميم والمنتظر. لا يدّعي التنظير ولا تقديم رؤية خاصة للإسلام، بل يعلن ببساطة لافتة أنّه لا يفعل أكثر من تذكير المسلمين بتاريخهم وأمجادهم. يروي لهم قصة الإسلام، أو كما تتجلّى في وجدانهم. ويعرض لهم قصة تمزج الدراما بالتاريخ عن الإسلام المشتهى، الذي يواجه الصعوبات والخيانات ويخرج منها منتصراً على الدوام.

الإسلام البطل

تعامل المسلسل مع فكرة البطولة بشكل خاص. فعلى عكس البطل الأميركي الأيقوني “رامبو”، الذي يعمل لذاته وانطلاقاً من ذاته، ويصنع بطولته بنفسه، فإن أرطغرل ليس بطلاً بذاته بل يدين ببطولته إلى التقاليد وإلى الإسلام نفسه. إنّه الوسيلة التي يُظهر فيها الإسلام قوّته وجبروته ويعكس قيمه، فهو ليس صاحب الرسالة، بل الأمين عليها والناقل لها.

يحرص المسلسل في الكثير من مشاهده على التركيزعلى هذا الموضوع. فأرطغرل يصرّ على الدوام على التأكيد أنّه لم يفعل شيئاً، بل قام بما تمليه عليه التقاليد والعادات. هذه التقاليد ليست سوى مبادئ الإسلام التي ينطق البطل باسمها ويعمل من خلالها، وهي تتحرّك في اتجاه يحكم حركة البطل ويحدّد تصرفاته. ولكنّه في الآن نفسه يجعله ناطقاً بما يتجاوز كيانه وشخصه، فيصبح بنية رمزية بشكل كامل.

إقرأ أيضاً: اسكندر نجار يهدي “تاج الشيطان” إلى ضحايا كورونا

خاتمة المسلسل الشهيرة حين تُتلى “سورة الفتح”، تبدو إيذاناً بانطلاقة البطل في مهمة توحيد العالم الإسلامي، ما يؤكد على عمق هذا النزعة في وجدان المسلمين عموماً على اختلاف أطيافهم وأهوائهم.

من هنا يمكننا القول إنّ السبب العميق الذي يقف وراء النجاح الاستثنائي لهذا المسلسل، يتجلّى في أنّه كان يخاطب أمّة كاملة توّاقة إلى الوحدة والانتصارات في زمن التشتت والتشرذم. أمّة تسعى إلى “القيامة”، وتنتظر بطلها… “أرطغرلها”.

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…