يتذكّر جيل الحرب الأهليّة اللُبنانيّة، حين يشاهد اليوم تمرّد يفغيني بريغوجين مؤسّس وقائد مجموعة فاغنر على رفيقه السابق الرئيس فلاديمير بوتين وجيشه، أحداثاً دمويّة كثيرة مُشابهة حصلت في لُبنان كان الرفاقُ ينشقّون فيها عن الرفاق في قسمَيْ بيروت الشرقي والغربي، ويتذابحون فوق جثّة الدولة، ويفتحون أبوابَ الوطنِ لكلّ مرتزق ومحتلّ وطامعٍ، وغازٍ، وعدوٍّ وشقيق، ويساهمون في إضعاف الجيش الوطنيّ، وينحرون الوطن.
دأبُ الحروبِ العسكريّة أن تُنتجَ أمراءَ حربٍ، وهؤلاء غالباً ما تقسو قلوبُهم في المعارك، وتُملأ جيوبُهم بالمال، فيشعرون بأنّهم باتوا أقوى من الدولة التي يتقاتلون على أرضها، وبأنَّ لهم الحقّ في قطف ثمار الانتصارات الحقيقيّة أو الوهميّة، وتبوُّؤ مراكز القيادة، أو يقرّرون في لحظة الذروة القتاليّة والدمويّة الانسحابَ من المعركة كي لا يكونوا وقوداً لها، أو يتعرّضون للاختراق والإغراء مِمّن يقاتلونهم.
تُشيرُ كلّ التقارير الغربيّة ليل أمس إلى الإحراج الكبير الذي سبّبه بريغوجين لحليفه السابق بوتين، على المستويَين العسكريّ والسياسيّ. لكنّ التقاريرَ نفسَها تؤكّد أنّ دخول بوتين على خطّ الصراع بين قائد فاغنر وقيادة الجيش، لصالح هذه الأخيرة، واعتبارَه الأمر “خيانة”، يُضيّقان الهامش أمام بريغوجين الذي قُتلَ نصفُ قوّاتِه تقريباً في المعارك، وقد يواجه الاعتقال أو الهروب والنفي أو تنجح الوساطة في إعادته إلى بيت الطاعة، وأنّ أمَله بانضمام قادة كبار إلى حركته ضيّق جدّاً.
الحروب الكبرى.. ولبنان الصغير
جاءَ هذا الحدثُ الروسيّ الأوكرانيّ الكبير ليُذكّر الجميع، ومن بينهم اللبنانيّون، بأنّ الحروبَ الكُبرى تدورُ في أماكنَ أخرى من هذا العالم، وأنّ حروبَهم الصغيرة لأجل انتخابِ رئيسٍ للجمهوريّة ما عادت تُثيرُ انتباهَ أحدٍ في خضمّ صراع المحاور ورسم الخرائط العالميّة وترسيم خطوط الصراع الدوليّ بين الشرق والغرب.
المُرشّح الأكثر جذباً للتأييد الدوليّ والعربيّ حاليّاً، هو قائد الجيش العماد جوزف عون، وإنّ إمارةَ قطر تسعى حثيثاً، بالتنسيق مع قوى خليجيّة ودوليّة، إلى إقناع الجميع به وانتخابه قبل نهاية ولايته، أي قبل نهاية العام الحاليّ
لكنّ الصورةَ الكُبرى في أوكرانيا، أو في ترحيب منظومة “البريكس” بانضمام دولٍ جديدة إليها مثل مصر وإيران وغيرهما، والصورة الإقليميّة التي تشهد مزيداً من التقارب الإيراني السعودي بعد فتح السفارتين، وتشهد مضاعفةً للجهود الروسيّة والإيرانيّة للتقريب بين سوريا وتركيا بعد فتح الأبواب المُغلقة بين العرب ودمشق، أمورٌ تدفعُ للسؤال عمّا ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية اللُبنانيّة.
قد نجد بعضَ الجواب في شرحٍ مُفصّلٍ لمسؤولٍ دوليّ، بعد زيارةِ المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان لبيروت. ومفاد جواب المسؤول الذي تمنعُه صفتُه الدوليّة من الإفصاح عن اسمه هو التالي:
إنّ المُرشّح الأكثر جذباً للتأييد الدوليّ والعربيّ حاليّاً، هو قائد الجيش العماد جوزف عون، وإنّ إمارةَ قطر تسعى حثيثاً، بالتنسيق مع قوى خليجيّة ودوليّة، إلى إقناع الجميع به وانتخابه قبل نهاية ولايته، أي قبل نهاية العام الحاليّ.
صحيح أنّ الثنائي الشيعي متمسّك، لا بل متصلّبٌ في ترشيح سليمان فرنجيّة، وأنّ الثنائي المسيحي “يُجرّب” بمرشّحين آخرين لقطع الطريق على زعيم “المَرَدة”. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ قائد الجيش له حظوظٌ أكثر من غيره في الحصول على موافقة أو غضّ نظر معظم القوى الإسلاميّة والمسيحيّة، حين يأتي زمنُ الصفقة الكبرى. وثمّة من يقول إنّ تمرير ترقية الضبّاط اللُبنانيّين كان مؤشّراً داخليّاً جيّداً لصالح العماد جوزف عون أخيراً.
إنّ قائد الجيش لم يُخِلّ بالقضايا الاستراتيجيّة التي تهمّ الحزب، أو سوريا، لا بل حصل من الجيش السوري أكثر من مرّة على مبادراتٍ ترحيبيّة وتعاونيّة في ملاحقة مطلوبين أو إرهابيّين حتّى داخل الأراضي السوريّة، وكان مُستعدّاً دائماً للتنسيق عبر الحدود لصدّ تسلّل إرهابيّين.
إنّ قطر التي تولّت زمام الدعم المالي للجيش منذ فترة، وتحظى برضى أميركيّ لدعم قائد الجيش، وبقبولٍ ضمنيّ سعوديّ ومصريّ، بدأت بفتح خزائنها الماليّة، بموازاة تسريع حركتها الدبلوماسيّة والأمنيّة، خصوصاً أنّ المشاريع الاقتصاديّة اللُبنانيّة واعدة في مجالات الغاز والاستثمار.
إنّ ثمّة خطوطاً مفتوحة على مصراعيها بين واشنطن والرئيس برّي، وخطوطاً أخرى غير مُباشرة مفتوحة مع الحزب، الذي صارت واشنطن تعتبره “براغماتيّاً” وواقعيّاً منذ تسهيلِه ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل. ولوحظ منذ الترسيم أنّ اللهجة الأميركية هدأت على نحو رمزيّ.
يحظى قائد الجيش أيضاً بشرعيّة شعبيّة، ذلك أنّ كلّ خطاباتِه التحذيريّة، وتصرّفاته على الأرض منذ انتفاضة 17 تشرين 2019، كانت تستجيب بعمق لمطالب الناس بالإصلاح والتغيير. وهو الذي قال قبل أيام في كليّة فؤاد شهاب للقيادة والأركان: “ليس أمامنا إلا التمسّك بلبنان والجيش ولن نترك البلاد فريسة للمجرمين والإرهابيين والمخلّين بالأمن”، وهو السائل أيضاً للسياسيّين منذ ربيع عام 2021: “إلى أين نحن ذاهبون، ماذا تنوون أن تفعلوا، لقد حذّرنا أكثر من مرّة من خطورة الوضع وإمكان انفجاره”، مُضيفاً: “إنّنا لن نسمح أن يكون الجيش مكسر عصا لأحد، ولن يؤثّر هذا الأمر على معنويّاتنا ومهمّاتنا. ربّما للبعض غايات وأهداف مخفيّة في انتقاد الجيش وشنّ الحملات عليه”.
قائد الجيش… بمواجهة التقسيميين
أمام طروحات التقسيم المقنّعة التي تفوح رائحتُها بكثرة حالياً في لُبنان، وأمام الحاجة المُلحّة إلى إيجاد حلٍّ لمسائل النازحين، فإنّ قائد الجيش حافظ على خطٍّ بيانيّ واضح في هاتين القضيّتين، بحيث يرفض أيّ مساس بوحدة لُبنان وينفتح على كلّ الخيارات القاضية بإعادة النازحين بغطاء دوليّ وعربيّ وبالتنسيق مع دمشق.
إنّ للبروتوكولات الدبلوماسيّة الدوليّة رسائلَها، وليس من قَبيل الصُدفة أن يختمَ المبعوث الفرنسي لقاءاتِه السياسيّة في لُبنان، بجلسةٍ سياسيّة مع قائد الجيش العماد جوزف عون. ففرنسا التي وُوجِهت برفضٍ مسيحيٍّ، خصوصاً من قِبَلِ التيّارين الكبيرين: القوات اللُبنانيّة والوطني الحُرّ، تُدركُ تماماً كالدول القليلة المعنيّة حالياً بلُبنان، أنّ درس خياراتٍ أخرى غير سليمان فرنجيّة بات ضروريّاً. ففي باريس تيّاران بشأن لُبنان، الأول قاده الرئيس إيمانويل ماكرون وتبنّى بشدّة خيار فرنجيّة لأسباب سياسية واقتصاديّة لُبنانية وإفريقيّة وغيرها، وآخر يرى ضرورة الحفاظ على العمق المسيحي وعدم الذهاب في اتّجاهاتٍ تجعل مسيحيّي لُبنان مُرتابين وقلقين من “انحراف” فرنسيّ. لذلك لا خيار فرنجيّة انتهى بالنسبة لباريس، ولا الخيار الآخر مُستبعد، خصوصاً بعد الوصول إلى مرحلة الانسداد المُطلق.
فهل تنجح قطر في تسريع الخُطى لانتخاب قائد الجيش قبل نهاية ولايته؟ هذا يتطلّب أوّلاً تعديلاً في موقف رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي حتّى لو أنّ حليفَه الحزب قرّر عدم التصويت لعون، وقد سرّب الرئيس برّي لقناة الجديد أمس رأيه القائل بأنّ أميركا تُريد قائد الجيش. لكنّ برّي يقول لكلّ مَن يزوره: “إنّ هذا المجلس لن يُعدّل القانون لانتخاب قائد الجيش”.
الذهاب نحو خيار جوزف عون يتطلّب ثمناً كبيراً لإقناع حلفاء فرنجيّة بتبنّي الخيار الثاني، خصوصاً أنّهم أثبتوا على مدى الأشهر الثمانية المُنصرمة أنّهم على استعداد لتكرار تجربتهم مع انتخاب ميشال عون وإبقاء الرئاسة مُجمّدة لفترة طويلة، وعندهم القدرة على ذلك.
إقرأ أيضاً: كيف يفكّر جهاد أزعور؟
فهل خيارُ عون واقعيّ؟
لا أحد يستطيع الجزم، لكنّه بات مطروحاً بقوّة وأكثر من أيّ وقت مضى في الدوائر الرسميّة العربيّة والدوليّة، حتّى لو أنّ حلفاء فرنجيّة يجزمون أن لا رئيس غيره، وحتّى لو أنّ جولة لودريان أقنعت باريس بضرورة عقد مؤتمر للحوار الداخلي للخروج من المأزق.
كلّ لُبنانيّ كان يتمنّى لو أنّ ساستَه، لا الخارج، اتّفقوا على مُرشّحين يتنافسون ديمقراطيّاً ويُنتخب الأفضل بينهم من سليمان فرنجيّة إلى جهاد أزعور إلى زياد بارود إلى نعمة إفرام وغيرهم، لكنّ “الفاغنريّة السياسيّة” ما زالت، على ما يبدو، اللغة السياسيّة الوحيدة بين أمراء الحروب.
لمتابعة الكاتب على تويتر: samykleyb@