فشل الإدارة السّياسيّة لا النّظام

مدة القراءة 7 د

جلسة انتخاب رئيس للجمهورية أفضت إلى سؤال مزدوج: هل نحن في أزمة نظام سياسي ثبت فشله بالتجربة؟ أم نحن أمام إدارة سياسية ثبُت فشلها منذ إقرار اتفاق الطائف حتى الآن؟

الباعث على السؤالين هو الشحن السياسي الذي بلغ مبالغ التخوين مع إطلاق النعوت والصفات. الشحن كانت له أشكال كثيرة: مرّة في تصنيف البلد بين “سيادي” و”ممانع”، ومرّة يوم جرى اعتبار طوائف بعينها خائنة وأخرى مُقاومة. كان هذا كلّه كلاماً يقوم على تصنيف ماهويّ إن مضى قُدماً فستكون تتمّته الحرب.

ليست إدانة التصنيف رفضاً لعلم الاجتماع الذي يميّز علميّاً داخل المجتمع بين جنس وعمر ودخل وتديّن. الإدانة لهذا التصنيف هي إدانة لتوحّش سياسي صار يستسهل الطعن بمواطن آخر. فهذا النوع من التصنيف كان من طبيعة أيديولوجية تُلغي كلّ حرّية في النشاط السياسي وتدفع نحو التشنّج والتطرّف.

جلسة انتخاب رئيس للجمهورية أفضت إلى سؤال مزدوج: هل نحن في أزمة نظام سياسي ثبت فشله بالتجربة؟ أم نحن أمام إدارة سياسية ثبُت فشلها منذ إقرار اتفاق الطائف حتى الآن؟

أزمة إدارة سياسيّة

الراجح من أمر الجلسة البرلمانية أنّنا أمام أزمة إدارة سياسية متمادية، لا أمام أزمة نظام. المشكلة الفعليّة أنّ هذا النظام، بما هو عقد وطني ودستوري، قد وُضع منذ البداية تحت احتلالين: الأوّل سوريّ، والآخر إيرانيّ. وضع الاحتلالان مسدّساتهما لإدارة نظام سياسي كان يمكنه العبور بيسر وسهولة شديدين نحو الدولة.

تنكّر الاحتلالان للوطن اللبناني. من جهته، اعتبر السوري هذه الجغرافيا محافَظة، فيما رأى الإيراني وطن الأرز مقاطعةً على مثال الأحواز العربية العراقية المحتلّة بقوّة السلاح. في ظلّ الاحتلالين واصل لبنان عيشه الأهليّ في أجواء سلم بارد بين مكوّناته الثقافية والروحية والسياسية. كان هذا السلم مهدّداً على الدوام بالتحوّل إلى حرب ساخنة لا تُبقي ولا تذر.

الاستنسابيّة في الإدارة السياسيّة

بقي التطبيق الاستنسابي لاتفاق الطائف في ظلّ الاحتلالين في إطار العمل على وقف الحرب، وهو ما حال دون تطبيق الدستور إلا بما يرضي الاحتلالين وأذرعتهما. أكثر من ذلك، أدّى هذا الأداء والتطبيق إلى مفاقمة الهواجس والظنون. وكان لذلك أن يُطلق جنون الرهانات غير المشروعة وغير العقلانية، وهذا الجنون بدوره عزّز النزعات الانفصالية.

صراعات تستعر

لم يكن ذلك ليحصل لولا هذيان الصراعات التي استعرت في المنطقة. توازى ذلك مع شعور متعاظم بالقوّة مثّلَهُ الثنائي الشيعي بفجاجة، فيما الفريق المسيحي العوني عبّر عنه على استحياء.

كان الطرفان يريدان إلغاء اتفاق الطائف، وكلاهما لم يوافقا عليه ولم يدخلاه طوعاً، وإن انخرطا به لاحقاً. كان السعي الحثيث نحو تكريس استثناء مسيحي سياسي مع غلبة شيعية ـ إيرانية هي مذهبية بالواقع والضرورة.

هذا المستجدّ السياسي على حياة البلد وأهله ودستوره ضمّ طرفين:

1ـ الحزب بقضائه وقدره الذي سيطر عبر احتكار المقاومة ضدّ العدوّ الإسرائيلي. لم يكتفِ بذلك، بل تمرّد على مشروع الدولة علناً قاطعاً معها كلّ صلة عندما انطلق عام 2011 في مغامرات قتالية خارج لبنان.

2 ـ الطرف الثاني تمثّل في تيار مسيحي متحالف مع السلاح الإيراني ويرفع شعار استرداد الحقوق وصلاحيات الرئاسة. الحزب والتيار العوني كلاهما يشتركان في اعتبارهما أنّ الطائف أصبح ضيّقاً على قوامهما. وكلاهما تعاطى مع سُنّة لبنان على أنّهم أصحاب فرادة دستورية وسياسية قد حازوها عبر اتفاق الطائف، وبالتالي صار وجوباً سقوط هذا الاتفاق.

ما حصل في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لا يقول إلا أمراً واحداً، وهو أنّ مطاحنة القوى البرلمانية كانت على الأحجام لا على السياسة، ويفصح عن أنّ البلد أمام أزمة وطنية سياسية لا صلة لها على الإطلاق بالمنافسة الديمقراطية

مغامرات الأهل

الطرفان، وكلاهما انخرط في أهوال الحروب اللبنانية، لم يدركا بالسياسة أنّ الغلبة تُسقط الشراكة الوطنية وتدفع باتّجاه مغامرات أهليّة عَلِمنَاهَا وذقناها. الأخطر أنّ الفريقين لم يدركا أنّ وضع الصيغة على خطّ القوّة المتحرّكة والمتغيّرة، بدلاً من قوّة التوازن، لا يعني إلا وضع لبنان في عين العاصفة.

في كلّ الدول الكثيفة التنوّع لا أحد ينكر على قوّة حيويّتها لتحصيل فوائض قوّة ثقافية أو سياسية أو ماليّة، لكن بشرط وضعها في تصرّف الدولة. هذا يحصل في الولايات المتحدة، وفي بلجيكا، وفرنسا، وبريطانيا. عكس ذلك لا يعني الفائض إلا قوّة تهديد وآلة تدمير. وهذا ما يحصل عندنا في لبنان، ولن يقود إلا إلى انفجار، إن عاجلاً أو آجلاً. تواريخنا الأهليّة والسياسية منذ قيام الكيان عام 1920 تقول ذلك بوضوح فاقع.

 

الكلّ المعطِّل

ما حصل في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لا يقول إلا أمراً واحداً، وهو أنّ مطاحنة القوى البرلمانية كانت على الأحجام لا على السياسة، ويفصح عن أنّ البلد أمام أزمة وطنية سياسية لا صلة لها على الإطلاق بالمنافسة الديمقراطية: برهنة ذلك تجد ذاتها في ما فرضه الثنائي. الأسوأ أنّ الطرف الآخر ذهب إلى الاقتراع بمرشّح “تقاطعات” لا مرشّح ثوابت سياسية.

التمريرة البرلمانية التي خاضها الرئيس نبيه برّي قالت عمليّاً إنّ التعطيل الانتخابي الرئاسي سيطال كلّ شيء حتى العيش المشترك. فهناك فريق هو “الممانعة” يريد من الآخرين الرضوخ لرأيه والحكم بموجب توجّهاته، وإلّا فالشراكة في خطر. هذا المفترق الخطير لن تقتصر عواقبه الوخيمة على الشراكة الوطنية بمعناها العريض، إنّما ما حصل ويحصل يضع البلد في مأزق.

حجم المأزق واضح جدّاً. طرفا “الممانعة” و”السياديّون” لا يريدون الحوار في الأساس. وهذا يلبّي حاجات خارجية متعدّدة، ومن دون أيّ مراعاة لوضع الداخل اللبناني. انطلاقاً ممّا حصل يمكننا أن نفهم ما الذي تعنيه “التمريرة” البرلمانية تحت عنوان انتخاب رئيس للجمهورية. الناخبون من الطرفين يعتبرون الآخر “لدوداً”، أو قل في أحسن تقدير “متواطئاً”. هكذا البلد صار أمام اختبارات صعبة. ذلك أنّ القوى المتصارعة لا المتنافسة تريد أن ترى رأيها جالساً على كرسي الرئاسة الأولى.

الكلام والدعوات الكثيفة إلى حوار “ينبغي” إنجازه يصطدمان في الأساس بمسبقات ومطلقات، لا قدرة لأحد على تذليلها إلا في حالة واحدة: سقوط الموالاة والمعارضة وجلوس الجميع في جهة واحدة.

أحلام لا وقائع

الأرجح أنّ مشهداً كهذا عزيزُ المنال على كلّ اللبنانيين، إذا ما أُخذ على المحمل الدستوري والسياسي. ذلك أنّ جلوس الجميع من دون مسبقات ومطلقات يعني تلقائياً النجاح في إنجاز تسوية ما تتيح لهذا البلد المعطوب أن يتحرّك باتجاه ما.

لقد سعى الثنائي بتحالفاته إلى تبيان قدراته على فرض مرشّحه الذي يأتمنه على سلاحه كما حدث ذات عام 2016. في المقابل سقطت الأطراف المسيحية في مغامرة غير محسوبة لسببين: الأوّل اعتبارها أنّ الكتلة السُنّيّة غير موجودة في لبنان. أمّا الثاني فهو إعلانها خوض المعركة بـ”مرشّح مواجهة” انتهت إلى تسميته بـ”مرشّح تقاطعات”. الوضع الهشّ للأخير كان التعبير الأفضل عنه هو القول إنّه “مرشّح اللحظة السياسية ولا يُلْزِمُنا بعد ذلك بشيء”.

مشكلة الفريق الثاني أنّه في العمق السياسي على شيء من البساطة السياسية. كان همّه ترشيح من يستطيع عبره تقديم أوراق اعتماده للرأي العامّ الداخلي والخارجي.

لقد بذلت كلّ القوى السياسية “السيادية” على امتداد الأشهر السابقة كلّ الممكن السياسي للتضليل والإيحاء بأنّها تخوض معركة استقلال لبنان عن الاحتلال السياسي الإيراني.

إقرأ أيضاً: الجلسة الرئاسيّة الـ12: الجنوح نحو النظام المجلسيّ

الرديء أنّ طرفَي الاصطفاف الطائفي في الإدارة السياسية تجاهلا أنّ الأزمات التي تعصف بالكيان وأبنية الدولة تتطلّب توافق الحدّ الأدنى لإنقاذ ما بقي من لبنان.

الأجمل في مشهد المجلس النيابي كان في أولئك النواب الذين تمرّدوا على التهويل، ورفضوا الانضواء في جبهات الانقسام الأهليّ، وجدّدوا عبر معارضة نشطة انتسابهم إلى لبنان. هذا المشهد شكّل نقيضاً لأداء طرفَي الصراع اللذين لا يفعلان غير تعميق مأزق وأزمات البلد، الذي منذ تشكيله ما يزال عاجزاً عن أن يصير دولة أو وطناً.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…