الجلسة الرئاسيّة الـ12: الجنوح نحو النظام المجلسيّ

مدة القراءة 5 د

لا يكفي التبصّر والهدوء لاستخراج الدروس ممّا جرى في الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس للجمهورية، بل ينبغي معاينة ما ستحمله الأيام المقبلة من متغيّرات ومعطيات إقليمية ودولية لإدراك طبيعة المرحلة الآتية. قد تفضي النتائج المعقودة على القمّة الفرنسية السعودية ولقاء وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبعدها على مساعي الموفد الفرنسي الجديد إلى بيروت جان إيف لودريان، الذي التقى في باريس السفير السعودي في لبنان وليد بخاري إلى الدفع باتّجاه تسوية رئاسية أو إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه. ربّما هذا ما يجعل الجوّ السياسي الذي ما يزال سائداً بعد جلسة الانتخاب أشبه بهدوء ما بعد العاصفة أو هدوء ما قبلها.

خمس ثوابت لجلسة واحدة
إنّ الأهمّ من البحث عن النواب المنتقلين من ضفة إلى أخرى هو النظر إلى ما أفضت تلك الجلسة الى تأكيد الثوابت التالية:
-أوّلاً، قد يكون في المآثر الديمقراطية المتمثّلة بسابقة “الصوت الضائع” و”إخلاء القاعة العامّة” في البرلمان قبل انتهاء الفرز تحت شعار “التعطيل حقّ ديمقراطي” واللامبالاة التي طغت على إدارة الجلسة، ما يؤكّد استحالة الاحتكام إلى السلطة التشريعية القائمة في إنجاز الاستحقاق في الوقت الذي تقود فيه انقلاباً على الدستور منذ سنوات.
-ثانياً، ما يحدث في المجلس النيابي هو أكثر من جنوح نحو “نظام مجلسيّ”، أي نظام يقوم على اعتبار البرلمان مصدر جميع السلطات بحيث تكون السلطة التنفيذية التي يختار المجلس أعضاءها مجرّد سلطة منبثقة عنه وتابعة له وملزمة بتوجيه سياساتها بما يتّفق مع ما يحدّده المجلس، وبمعنى آخر إلغاء مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها. أمّا لجهة رئاسة الدولة فهي صوريّة ولا تتمتّع بأيّ دور سياسي حقيقي. لقد دأب المجلس النيابي منذ اتّفاق الدوحة على تعطيل الحكومات تشكيلاً وممارسةً تحت مسمّيات ميثاق العيش المشترك وصيغ حكومات الوحدة الوطنية، وقد نجح في وضع اليد عليها حتى أضحى رئيس الحكومة اليوم يلتمس تدخُّل رئيس المجلس النيابي للتمكّن من دعوة الحكومة إلى الاجتماع، وقد تكافلت رئاسة الجمهورية معه خلال ولاية العماد عون في تطويق رئاسة الحكومة وشلّ حركتها من الداخل.

بات واضحاً أنّ تطوّر موقف المعارضة، وربّما التفاف أكثرية وازنة من الكتل النيابية بشكل معلن بما يفوق الأكثرية المطلقة حول أيّ مرشح، لن يدفع الرئيس برّي إلى الدعوة لجلسة انتخاب جديدة

-ثالثاً، يُستدلّ اليوم من السير بمبدأ “التعطيل حقّ دستوري” وتكريس مبدأ غالبية الثلثين في كلّ دورات الاقتراع وإسقاط حقّ الغالبية المطلقة في اجتماع المجلس، ما يكرّس مبدأ “دكتاتوريّة الأقلّيات” في التحكّم بالجلسات بما يجعل الرئيس المنتخَب نتاجاً لـ”مقاصّة برلمانية” حادّة وغير دستورية تفقد معها الرئاسة هيبتها ويفقد معها رئيس الجمهورية دوره رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن.
-رابعاً، وفي إضافة إلى الممارسة البرلمانية اللادستورية دعا الرئيس برّي البطريركية المارونية إلى إطلاق حوار في مسألة الرئاسة، بما يعني أنّ الانتخابات الرئاسية لم تعُد شأناً دستورياً ينبغي تحقيقه عبر آليّة الانتخاب، بل أضحت شأناً مسيحياً ينبغي التفاوض فيه، وربّما في صلاحيّاته وشروط الإفراج عنه.
لم يتوقّع الثنائي الشيعي أن يواجَه بموقف مسيحي موحّد معارض له ولم يرتقب خروج الوزير جبران باسيل من تحالفه مع الحزب نحو الفضاء المسيحي الأرحب الذي أضحى باسيل بأمسّ الحاجة إليه، ولم يتوقّع أيضاً تمسّك رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط بما يُجمع عليه المسيحيون. لقد جاءت دعوة الرئيس برّي ردّاً على فشل الحزب في استخدام حليفه المسيحي لصالح مرشّحه فرنجية كما حصل عند انتخاب العماد ميشال عون، وبالتالي ليس إلّا من قبيل التهويل إلقاءُ تبِعة الحوار على بكركي انطلاقاً من أنّها المعنيّة بمستقبل المسيحيين في لبنان والمخوّلة التفاوض على الموقع المسيحي الأوّل وعلى شروط استمراره. فبكركي لا تستطيع  قيادة قاطرة التنازلات وإقناع رعيّتها بالواقع الجديد.
-خامساً، بات واضحاً أنّ تطوّر موقف المعارضة، وربّما التفاف أكثرية وازنة من الكتل النيابية بشكل معلن بما يفوق الأكثرية المطلقة حول أيّ مرشح، لن يدفع الرئيس برّي إلى الدعوة لجلسة انتخاب جديدة. لا يعترف الحزب كما الرئيس برّي بصلاحيّة أيّ طرف داخلي للتفاوض في مسألة الرئاسة، فهي بالنسبة له شأن إقليمي يتمّ التفاوض فيه بين القوى الإقليمية. وإذا كانت عودة سوريا إلى الجامعة العربية أحد تداعيات الاتّفاق السعودي الإيراني قد تجاوزت مسألة شرعيّة الرئيس بشار الأسد، وإذا كان الانفتاح على العراق لم يتعارض مع وجود الحشد الشعبي، فلماذا لا ينسحب ذلك على لبنان؟ ولماذا لا تكون معادلة الإفراج عن الرئاسة اللبنانية مقابل شرعنة سلاح الحزب هي امتداد للاتّفاق الإيراني السعودي؟

إقرأ أيضاً: تعادل سلبيّ في الداخل.. والخارج يتحرّك

القلق اللبناني
لقد أيقظت إدارة الحزب وحلفائه للمعركة الرئاسية شعوراً عارماً بالقلق ليس لدى المسيحيين فحسب، بل لدى كلّ المجموعات اللبنانية، السياسية منها والطائفية. استشعر الجميع من خلال إدارة جلسات الانتخاب جنوح الثنائي الشيعي نحو تفجير النظام من الداخل، وأدرك التيار الوطني الحرّ أنّه ليس سوى بيدق في اللعبة الإقليمية التي يقودها الحزب، وأنّ التسويات الإقليمية ستجعل من لبنان رقعة الشطرنج المتاحة للحزب لتحقيق مآربه، وذلك لن يكون إلا على حساب المسيحيين، فمن لديه يؤخذ منه. ستقف كلّ الوساطات الدولية والإقليمية أمام واقعين متقابلين: قوى سياسية متمسّكة بالدستور، وقد استنفدت كلّ ما لديها، وموقف موحّد حيال دور المسيحيين في اختيار الرئيس من جهات وقوى تبحث في لحظة إقليمية حرجة عن فرصة لتحويل فائض القوّة المسلّحة إلى مكاسب سياسية من جهة أخرى.
فما هي الفرص المتاحة أمام الوساطات الدولية لتحقيق الاختراق المنشود؟ وكيف السبيل إلى بناء الثقة بين من يشعر بالقلق ومن يشعر بنشوة الانتصار؟

 

* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…