قبل أسبوع واحد تقريباً كانت نبرة صوته غير معروفة لدى الكثيرين من الأتراك. كان فائض كرمه أمام العدسات هو نصف ابتسامة لا أكثر. يقف إلى جانب الرئيس أو وزير الخارجية أو قائد الأركان دون أن يقول للكاميرات إنّني هنا، وهو عكس ما يفعله ويطمح إليه الكثير من السياسيين والبيروقراطيين. كان ظهوره العلني كلفةً زائدةً بالنسبة له، لكنّه مجبر عليها لأنّه يتنقّل مع القيادات السياسية في مركز القرار بين العواصم والدول. تحرّكاته السرّية لا نعرف عنها الكثير، لكنّنا نسمع صداها عند انتشار خبر من العيار الثقيل مثل الكشف عن خلايا تجسّس أو عرقلة محاولات تصفية حسابات بين أجهزة الاستخبارات فوق الأراضي التركية، أو عندما ينفّذ الجهاز عملية عابرة للحدود لا بدّ منها في إطار الردّ والدفاع عن مصالح تركيا الأمنيّة والقومية.
هاكان المتخصّص بالسياسة الخارجية
نقل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان من مركزه إلى موقع قيادة العمل الدبلوماسي على رأس الخارجية التركية. هذه ترجمة عملية أولى لِما قاله الرئيس إردوغان وهو يتحدّث عن فريق العمل المتناغم لتحقيق أهداف تركيا في المئوية الجديدة.
شكر فيدان في أوّل تصريح له الرئيس إردوغان على تعيينه في وزارة الخارجية، بعد 13 عاماً من العمل في جهاز الاستخبارات. وقال إنّه “فخور بأن ينضمّ إلى التشكيلة الحكومية الجديدة في الذكرى المئوية للجمهورية التركية”، متعهّداً بتقديم “كلّ التضحيات من أجل سلامة ورفاهية تركيا، ودفع رؤية السياسة الخارجية الوطنية على أساس استقلالية وسيادة القرار وفق مصالح أمّتنا”.
ليست ميزة فيدان مشاركته في معظم تحرّكات الرئيس إردوغان الخارجية، بل مساهمته المباشرة في ترتيب ملفّات الزيارات والجلوس إلى طاولة القرار بشأنها
فيدان هو أوّل وزير خارجية يأتي من جهاز الاستخبارات الوطنية. لكنّه قبل ذلك أثبت كفاءة عالية ومهنيّة مميّزة وهو يتنقّل بين وظائفه العسكرية والأكاديمية ويتدرّج في قطاعات الطاقة والبرمجة والتخطيط ودورات مكافحة الإرهاب.
هو الأصغر عمراً بين رؤساء جهاز الاستخبارات الذين خدموا في هذا المنصب، لكنّه بين الأكثر كفاءة وجدارة في تاريخ الجهاز.
حصل فيدان على شهادة الماجستير عن أطروحته “دور الذكاء في السياسة الخارجية” وشهادة الدكتوراه عن أطروحته “الدبلوماسية في عصر التكنولوجيا المعلوماتية”. شدّد في طروحاته على أنّ تركيا يجب أن تتحرّر من الاعتماد على أجهزة استخبارات الدول الأخرى وتفعيل خطوات تعزيز جهازها الاستخباراتي ليوفّر سياسة خارجية تركية أقوى في الإقليم.
شهدت المؤسّسات التركية الرسمية المؤثّرة في رسم السياسات الداخلية والخارجية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل 7 أعوام موجة تعديلات وتغييرات جذرية في الهيكلية والتخطيط. كانت للمؤسّسة العسكرية وجهاز الاستخبارات ووزارة الخارجية الحصّة الكبرى في إعادة ترتيب بيوتها من الداخل ثمّ المساهمة في دعم بقيّة المؤسّسات والأجهزة لتنظيم صفوفها. أشرف فيدان بنفسه على فصل مهامّ أجهزة الأمن والاستخبارات الداخلية عن الخارجية. لكنّه قرّب أكثر بين المؤسّسة العسكرية وجهاز الاستخبارات ووزارة الخارجية باعتبارها مثلثاً نشطاً في متابعة الملفّات التي تتعلّق بالأمن القومي داخل تركيا وخارجها.
هاكان ليس منتسباً للعدالة والتنمية
ليست ميزة فيدان مشاركته في معظم تحرّكات الرئيس إردوغان الخارجية، بل مساهمته المباشرة في ترتيب ملفّات الزيارات والجلوس إلى طاولة القرار بشأنها. من النادر أن نرى هذا التداخل في العلاقة بين عمل الاستخبارات والخارجية والمؤسّسة العسكرية تحت إشراف الرئاسة التركية.
قال فيدان في كلمته العلنيّة الأولى وهو يتسلّم منصبه الجديد قبل أسبوعين إنّه “سيتبع سياسة خارجية وطنية ومستقلّة”. ليس حزبياً في صفوف حزب العدالة والتنمية، لكنّ قيادات الحزب وضعته دائماً في طليعة الأسماء التي خدمت السلطة السياسية المحسوبة على الحزب منذ أكثر من عقد. والدليل هو أنّ إردوغان أبقاه إلى جانبه طوال هذه المدّة.
13 عاماً على رأس جهاز الاستخبارات فترة زمنية تحطّم أرقام العديد من أسلافه. لا أحد يعرف أسرار الدولة بقدر ما يعرفها هاكان فيدان. هو مَن ساهم أصلاً في صناعة الكثير من الأسرار داخل تركيا وخارجها، وهذا ما يضعه في صفوف أقوى الممسكين بالملفّات التركية الداخلية والخارجية ومن كلّ الأنواع والأحجام.
الجميع في تركيا يسمع باسمه، لكنّ قلائل هم من يعرفون عنه أكثر ممّا يُنشر ويُقال في وسائل الإعلام. ساحة السياسة الخارجية التركية ليست جديدة عليه لأنّه عمل مطوّلاً مع أحمد داوود أوغلو ومولود شاووش أوغلو خلال وجودهما في مركز رسم السياسات الخارجية. أغضب الكثيرين بسبب خطوات ميدانية عملية قلبت حساباتهم رأساً على عقب. لكنّه أفرح الكثيرين أيضاً بسبب إنجازاته في عمليات أمنيّة استخباراتية سرّية داخل تركيا وخارجها. هو لا يتكلّم، لكنّ من تحدّث إليهم في الخارج في مراكز القرار السياسي وأجهزة الاستخبارت يعرفونه حتماً.
من ضابط صفّ خدم 15 عاماً في القوّات المسلّحة التركية، إلى باحث وأكاديمي متخصّص في مجالات الطاقة والعلاقات الدولية درس في أهمّ جامعات تركيا وأميركا وإنكلترا. عيّنه إردوغان في عام 2003 على رأس منظّمة التنمية والتعاون (تيكا) التركية، وبقي يتنقّل بين الأماكن والمناصب التي يختارها له الرئيس التركي. في عام 2007 وهو تحت سنّ الأربعين أصبح مساعد رئيس جهاز الاستخبارات، وبقي هناك لفترة قصيرة مكّنته من تسلّم رئاسته حتى الأمس القريب. بقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم يعني بقاء فيدان على رأس الجهاز إلى أن أعلن إردوغان أنّ الوقت قد حان لجلوسه في مكتب وزير الخارجية.
كشف طلعت أتيللا أحد الإعلاميين عن بعض “أسرار” فيدان الشخصية، فلم يعد هناك ما يحول دون ذلك ما دام قد انتقل من العمل السرّي إلى العمل السياسي العلني في الخارجية التركية، كما يقول الكاتب. فيدان ابن مدينة فان الحدوديّة مع إيران في شرق تريكا، وعاشق لكرة القدم من الصغر. قبل صلاة الفجر يقرأ جزءاً من القرآن كلّ يوم. احتمال كبير أن تعود معرفته بالأرجيلة إلى سنوات عمله في مطلع عام 2000 في وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” الناشطة خارج الأراضي التركية.
إقرأ أيضاً: شيمشاك يدير اقتصاد تركيا: سقوط “نظرية المؤامرة”؟
خيبة أمل عند خصومه
كثر هم من سيشعرون بخيبة الأمل لتسلّم هاكان فيدان مهامّ وزارة الخارجية التركية. أبرزهم في أميركا الإعلامي ديفيد أغناتيوس المتخصّص في صحافة الاستقصاء في “واشنطن بوست”، والأكاديمي المقرّب من المخابرات الأميركية هنري باركي، والخبير بشؤون الشرق الأوسط مايك دوران. إنّهم الثلاثي الذي تعارضت مواقفه وحساباته مع سياسة تركيا حيال مجموعات فتح الله غولان المتّهمة بالمحاولة الانقلابية عام 2016 وخطط وتحرّكات قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات والتقارب التركي الإسرائيلي قبل سنوات، وهم في كلّ هذه الملفّات يشيرون إلى فيدان ودوره. حاول أغناتيوس توتير العلاقات التركية الإسرائيلية أكثر من مرّة محمّلاً فيدان المسؤولية. لكنّ الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ كان هو من يشيد بدوره وجهوده في إحباط مخطّطات استهداف مواطنين من أصل يهودي في تركيا من قبل أجهزة الاستخبارات الإيرانية في حزيران 2022. شعار فيدان الذي سيُطبّق في عهده على رأس الدبلوماسية التركية: “جهاز استخبارات ضعيف في دولة ما لا يعني بالضرورة أنّ السياسة الخارجية لتلك الدولة ستكون ضعيفة. لكنّ جهاز استخبارات قويّاً في دولة ما يعني حتماً أنّ سياستها الخارجية ستكون قويّة”. لن يترك الجهاز حتى لو كان في وزارة الخارجية. وإبراهيم كالين الخلف في المنصب لن يعترض على مواصلته التنسيق معه في الاستخبارات التي أعاد هو بناء وحداتها وتنظيم طريقة عملها في العقد الأخير.
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@