ما الذي يخيف حزب الله حتى يتصدر النائب محمد رعد المشهد السياسي مهدداً كل المختلفين عنه ومعه بأن “إسم مرشحهم المتداول مناورة وهدفهم التآمر على المقاومة”؟. السؤال يبدو غريباً، مع هذا، يمكن المغامرة بالجواب: نعم.
في المبدأ يُفترض أنّ الحزب وقبل التصريح “الراعد” أجرى مناورة عسكرية أعلن فيها أن هذه البلاد قادرة على مواجهة إسرائيل، وأنها محكومة بسلاحه.
تصريح رئيس “كتلة الوفاء” العنيف سياسياً والذي يضع البلد قاب قوسين أو أدنى من الإنفجار يشي بأنّ جبران باسيل صار مخيفاً إلى هذا الحد. وأنّ دولة القوات اللبنانية قامت واصبحت ناجزة وباتت مرهوبة الجانب. لكن من نِعم الله على لبنان أن “داعش” صارت في طور النهاية، ما أنقذ “السُنة” من تهمة مُحققة.
التصنيف معياره القوة وليس السياسة
ليس افتعالاً ولا مبالغةً الربط بين أمرين: التصلب على أساس أرجحية القوة العسكرية. هذا وقع في تهديد استقرار البلد وتخيير أهله بالرضوخ لـ “حاكمية” الثنائي في التحديد على وجه الدقة من هو رئيس الجمهورية العتيد. إذا كان الحزب يستند إلى تجربة ميشال عون وإيصاله إلى بعبدا. فهذا معيار فيه ما فيه من خطأ القياس.
تصريح رئيس “كتلة الوفاء” العنيف سياسياً والذي يضع البلد قاب قوسين أو أدنى من الإنفجار يشي بأنّ جبران باسيل صار مخيفاً إلى هذا الحد
صحيح أن تصلب هذه المنظمة العسكرية والأمنية جعل من رئيس التيار الوطني في حينه مرشحاً دونه الفراغ المديد. لكن ما يُهمله الحزب عن قصد أو بغيره، هو أن ميشال عون حاز على أغلبية تمثيلية مسيحية عبر اتفاق معراب ليحوز دعم أكبر كتلتين نيابيتين مسيحيتين والكتلة السنيّة الأكبر. وهذا ليس متوفراً حالياً.
ما فعله حزب الله آنذاك، ما عاد يصح اليوم مع تغيّر الشروط. اليوم يحاول “الثنائي” على وجه من الوجوه كسر طبيعة النظام السياسي القائم في لبنان. وهو أخذ أيضاً عن المارونية السياسية ما نُسب إليها من شعار “ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم”. ذلك أنّه يُعطي الحق لذاته في تحديد رئيس البرلمان، من دون أن يعطي لغيره من سُنة ومسيحيين حق اختيار ممثليهم في الرئاستين الأولى والثالثة.
دم الأخوة
ليس عادياً، والأرجح أنه ليس مقبولاً في أي دولة من الدول، أنّ ينبري رئيس إحدى أهم الكتل سياسياً ليتهم كل الذين يريدون وطناً خالياً من السلاح والميليشيا بأبشع التهم والسعي إلى هدر دم أخوة لهم في الوطن. لكن هذا يصبح طبيعياً في سجال مع حزب الله كون الأخير يعتقد أن العلاقات السياسية تُقيم في حيّز ميزان القوى العسكرية والأمنية وليس في منطقة السياسة المحضة، بما هي نتاج إنتخابات لم يتقبل هذا التنظيم حتى اللحظة أنه خسرها.
هذا الإعلان صار يتشابه مع سوابق كثيرة وعديدة. المُقلق فيه أنه صنف أناساً بنقاء عرقي “لا يطعنون” المقاومة، بينما آخرون هم خونة وطنهم وأُجراء عند إسرائيل. هذا التصنيف بدأ منذ ما بعد حرب تموز يوم بات هناك “أشرف الناس”. وأنّ يحدث هذا ويتم السكوت عنه، فهذا لا يحصل إلا ببلاد انهارت، وما عادت تحكمها السياسة.
من عاديات الدول أن تكون مُستقلة. في حال غير ذلك، عليها تطلب الإستقلال. ولا ينال من طلاب الإستقلال، أفراداً وجماعات، أن يسعوا إلى دولة باستقلال ناجز، ليطالبهم الآخر بالرضوخ لمعايير القوة العسكرية والأمنية.
شيءٌ من مراجعة
الحزب يعرف باليقين أنه ما عاد في البلد مشاريع غلبة. ولم يعد هناك من يريد خارجاً للاستقواء به على الآخر. وحده يفعل ذلك علانية وعلى رؤوس الأشهاد. حسناً فلنصدق أنه أنجر تحرير الجنوب في أيار من العام 2000، من دون أن ننسى أن من باشره كانوا غيره ولم يخوّنوا الناس.
وينبغي الإعتراف بأنّه في فترات متقطعة من التاريخ اللبناني فاضت باستدعاء إسرائيل، والإستقواء بالفلسطيني، واللوذ بسوريا البعث وحافظ الأسد.
ليس عادياً، والأرجح أنه ليس مقبولاً في أي دولة من الدول، أنّ ينبري رئيس إحدى أهم الكتل سياسياً ليتهم كل الذين يريدون وطناً خالياً من السلاح والميليشيا بأبشع التهم والسعي إلى هدر دم أخوة لهم في الوطن
هذه الفترات حفلت بمواقف ذهبت أبعد مما ينبغي. وشهدت وقائع لم تكن في محلها. لكن الجوهري في الأمر ان اللبنانيين جميعهم ناضلوا من أجل تحرر بلدهم من كل القوى، وإن كان يجب التأكيد على عدم التساوي بينها خصومةً وتحالفاً.
كلام النائب رعد يُغفل عن قصد، أن من عرض ويُعرض استقرار البلد وسلمه الأهلي إلى المخاطر هو حزبه الذي رفض الخسارة الديموقراطية والانقلاب على النتائج في ثلاث انتخابات برلمانية في الأعوام 2005 و2009 و2022.
كاسرت المنظمة العسكرية والأمنية لبنان كله يوم راحت تفرض الحكومات، وتعبر حدوداً وافقت على ترسيمها كما حصل عام 2006. الكارثة التي صدعت وحدة الأهل كانت في قرارها الذهاب إلى سوريا، فكان أن وصلت إلى اليمن. في وضعية كهذه أي نجاة واستقرار يرتجيان من هكذا دولة فيها من يخرج على قرارات الشرعيتين العربية والدولية، ويجعل من لبنان ميداناً وصندوقة بريد لإيران.
حزب أكبر من دولة
الخاص في هذا التصريح هو الإعلان بأن ” المقاومة أكبر” من كل الذين يريدون مرشحاً سياسياً من طبيعة مختلفة عمن يريده الحزب. ما يُضاعف المسافة بين اللبنانيين أن فريقاً منهم ويتحدث بإسمه رعد يقول “بامتلاكنا سر الإنتصار لن يستطيع أحد في العالم أن يُثني عزمنا”. والحال هذه فإنه هو من يقول “لنا جمهوريتنا ولكم جمهوريتكم”. لقد صار هذا الحزب أكبر من الدولة بعدما ذوت كل المعارضات. وذهبت تختصم بعضها على مزايدة هنا أو مزايدة من هناك. الكل انغمس في كل شيء، إلا التمسك ببناء دولة قوية وقادرة وناجزة الإستقلال.
في السياسة لا يوجد من هو على صواب مطلق. كما لا يوجد من هو على سوية الخطأ المتواصل. الجميع يخطىء ويصيب. لكن الخطأ غالباً ما كان من نصيب حليف المراهنات الخارجية. ليس فقط سلاح الحزب هو من صار يُسخف الحياة السياسية اللبنانية، بل كل ما يرطن به مفوهوه ويطعنون بمن يطالب باستقلال لبنان. ذلك أن إستقلال الدول مهمة جليلة، وهي لا تستقل بالسلاح حصراً، بل بالإقتصاد والموارد المتاحة.
اللُبس في خطاب النائب رعد بمنطقة الريحان حيث أقيمت المناورة العسكرية لحزبه، انه يظن ويشيع ان لا شيء في لبنان تغيّر، وأن إسرائيل ما زالت تحتل البلد.
إقرأ أيضاً: الخَدَر اللبنانيّ العميم
الحديث عن جهوزية عسكرية لفئة دون غيرها، وعندها “سر الإنتصار الإلهي” منذ الأزل وإلى الأبد، فهذا يعني ان الحزب ثابت ثبات الصخر على تحكمه. ووحدهم اللبنانيون عليهم إعادة النظر في خياراتهم. وهذا لا يبعث على الإطمئنان أبداً.
يسع المرء ان يسأل الحزب كله ما الذي اقترفه اللبنانيون حتى يتم تخوينهم والطعن فيهم؟ هل ثمة قوة عسكرية في لبنان تتوثب لضربه؟ وهل ثمة أجهزة أمنية منذ مطلع التسعينات اغتالت وفجرت في طول لبنان وعرضه؟
لا شيء من هذا كله حصل فلماذا هذا التهديد. لكن ثمة بين “اللبنانيين” من يريد من البلد كله الرضوخ. وهؤلاء على الدوام لطالما اعتقدوا أنّ مواردهم وقوتهم قادرتان على تبديل كل شيء. لقد صرنا بحاجة ماسة إلى مدارس في السياسة كي نتبيّن فضيلة واحدة للعيش في لبنان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@