صار بديهيّاً الكلام عن “خَدَرٍ” لبنانيّ عامّ. “الخدر” الذي أصابنا ليس توصيفه سهلاً ولا متيسّراً. ما عاد معروفاً أساساً هل كان سبباً لما آلت إليه أحوال البلد أو هو نتيجة له.
في بلادٍ ما عاد فيها قدرات شرائية يتصارع اللبنانيون على حرّية ارتداء “المايوه” في صيدا جنوباً، مع كثير من اللبس والالتباس. غيرهم يخوض منافسة بعصبيّة أهليّة ضدّ “ملحمة وفرن” لا يبيعان الكحول في زحلة بقاعاً. ثالثهم يريد خوض “سجال” وفق قاعدة 6 و6 مكرّر، فإذا خاض فريق معركة ثقافة غربية، فسيكون على الآخر خوض معركة ثقافة متشدّدة، لا لشيء إلا من باب المنازلات الكثيرة والعديدة في الاجتماع الأهلي اللبناني.
هذا الربط بين مصائر لبنان الكارثية، وتخلّي اللبنانيين عن ثقافتهم في التنوّع، إنّما ينمّ عن مدى أحوال البلد وأهله الذين راحوا يتباينون ويتفاوتون ويتنازعون حتى تخدّروا. صاروا أصحاب تعاميم دينية ومذهبية وثقافية. أبعد من ذلك، فقد دفعوا هذه التعاميم إلى سويّات التأويل التقسيمي للبلد وجغرافيّته.
صحيح أنّ الحصاد ضئيل ومقيت، لكنّنا كنّا نعرف دائماً أنّ الثمن المدفوع لهذا الحصاد كان باهظاً. مع ذلك قرّرنا أنّ هذا من بعض أعمال القدر اللبناني الجائر، الذي يجعل الانتماء إلى هذا البلد محفوفاً بالمخاطر
كارثة سقوط البلد
يخوض اللبنانيون مغامرات تأويل الحرّيّة والتنوّع في إطار الوحدة، ولا ينسون أنّهم مثقلون بتجارب مريرة مدموجة بتجارب تعارضيّة فرضها الانهيار. فقد زاد التفسّخ الاجتماعي في العلاقات العامّة والخاصّة. لبنان باتت صورته قرينة هذه السجالات. وإذ هي تأكل ممّا راكمه من رصيد في الحرّيات، بل وتضع البلد وأهله في مرامي الاختناق والاهتراء.
على امتداد سنوات أربع منذ ولوج لبنان ميدان السقوط الحرّ لم يكفّ اللبنانيون عن التذمّر وبثّ الشكوى، التي تكون صامتة حيناً، وهادرة أحياناً في الشوارع والساحات. لم يكن الصمت بليغاً بدلالة سيرورة الأوضاع نحو الأسوأ منذ توقّف زخم ثورة 17 تشرين. لم يتغيّر شيء. انهار تفاعلهم الحضاري في الشارع. عاد كثيرون إلى معازلهم الطائفية والمذهبية يفكّرون في كيفية تحويلها إلى دويلات في وطن صغير جدّاً يكاد أن يكون قد نجا من قنبلة في الحرب العالمية الثانية.
صارت مرامي الأكثرية، التي أعادت انتخاب الطبقة السياسية نفسها تقريباً، هي الغيتوات الملوّنة بلون واحد. شيءٌ ما بدّدهم وسحق وعيهم حتى صاروا يتصارعون على “المايوه” وأيّ طائفة ترتديه أكثر من غيرها، أو على ملحمة وفرن ومن يأكل منهما. عصبيّاتهم الضيّقة وهويّاتهم الـ”ما دون دولتيّة” صارت تُصدر هويّاتهم الإنسانية العنيفة نحو بعضهم البعض. في الحروب اللبنانية والملبننة بين عامَيْ 1975 و1990 كانت لانقساماتهم رؤى فكرية ما كان لها أن تبرّر العنف، فكيف والحال على ما هو عليه.
ما يحصل في لبنان وبين مكوّناته الثقافية والروحية صار مناسبةً نادرةً لإجماع لبناني على الحزن وفهم ألم فقدان ما كانه البلد يوماً. الفقدان هو موت كلّ شيء. لكن ما ينبغي التوقّف عنده هو أنّ لبنانيّين يرون في كلّ مناسبة تطفح بالموت والفقد سبباً للشماتة من جهة، وسبباً لادّعاء النصر والنجاة من جهة أخرى.
استهوال الكوارث
منذ عام 2000 لم يعد يُجمع اللبنانيون على شيء. تحرير الجنوب اعتبروه غلبة لفئة على أخرى. اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 لم يكن محلّاً لاستهوال الكارثة بشكل عامّ ووطنيّ. صار اللبنانيون يحسبون أنّ الفرح والحزن لا يولدان ويموتان على أرض وطن واحد.
ليس لدينا ما يمضي بنا إلى نهايات رابحة، لكنّ السجال على “المايوه” و”الملحمة” و”الكحول” في هذا الظرف، لحظة “الجوع” الكبير، والانهيار المالي الأسوأ، يزيدنا ضعفاً على ضعف، وهذا الشيء الوحيد المؤكّد
ليس جديداً القول إنّ الكارثة الهائلة التي أصابت اللبنانيين بانفجار المرفأ، تركت في نفوسهم المتعبة ألماً هائلاً، لكنّ السخط كان على الأقدار. الأسوأ أنّ بعضنا قرّر من تلقاء نفسه أن يعيش الانفجار ووجهة عَصفِهِ على معنى طائفي مقيت وضيّق.
قبل ذلك كانت الكارثة في حرب تموز من عام 2006 يوم قرّر الحزب منفرداً أن يعبر الحدود ويأسر جنديَّين إسرائيليَّين. كان لهذه الواقعة أنّ توحّد بين اللبنانيين، لكنّها لم تفعل. ما أنجزته كان حزناً وخسراناً. صارت المنافسة بين اللبنانيين تتعلّق بمن قرّر اللبنانيون أن يفدوهم بالأرواح، أرواحهم وأرواح خصومهم. وهو ما جعل الموت، وهو أكثر الحوادث خطورةً وبعثاً على الحزن التي تضع المرء في مواجهة مع مستقبله، يمرّ في لبنان كما لو أنّه من اليوميّات والعاديّات.
الغرابة اللبنانية في مثل هذه المناسبات تبعث على القلق. ويجدر بنا نحن اللبنانيين أن نتحسّس الآلام والأحزان التي تسبّبها هذه الكارثة، وأن ندرك أنّ كلّ فقيد خسرناه في واقعة من واقعات كثيرة، هو أيضاً سبب حاسم للحزن وللوحدة عملاً وقولاً.
لبنان بلاد المهانة
تحت مطرقة العيش السجاليّ حول “مايوه” و”ملحمة” يعيش اللبنانيون في مهانة. هذه بلاد تحبّها وتسخر منك عبر انحداراتها الثقافية وأحوالها السياسية التي صارت أهوالاً. لقد صرنا منذ زمن كما لو أنّنا أدمنّا على تقبّل الموت والفرح بحصوله، ولولا ذلك ما كان لبنان مرميّاً على قارعة الأمم والصمت يلفّه، ولا صوت فيه إلّا للتفاهات الأهلية.
أكثر من ذلك، لقد بات اعتناق ثقافة الحياة مذمّة يجدر بمعتنقها أن يعتذر عنها. بل وكدنا نلوم من حاول النجاة بأعصابه وحياته من ثقل حروب أو مناوشات أو منازعات أهليّة، وقرّر الهروب والهجرة. على الرغم من أنّ الجميع، عن معرفة أو عدمها، يعرف أنّ الحصاد الذي حقّقه الجميع كان شحيحاً إلى الحدّ الذي دفع باللبنانيين جميعاً إلى البحث عن أوطان بديلة. أكثر التجارات ازدهاراً في هذه البلاد هي “عروض جوازات سفر ثانية”.
صحيح أنّ الحصاد ضئيل ومقيت، لكنّنا كنّا نعرف دائماً أنّ الثمن المدفوع لهذا الحصاد كان باهظاً. مع ذلك قرّرنا أنّ هذا من بعض أعمال القدر اللبناني الجائر، الذي يجعل الانتماء إلى هذا البلد محفوفاً بالمخاطر.
إقرأ أيضاً: لا.. بيروت ليست “عاصمة الإعلام العربيّ”
إنّ بلداً لا يُجمع أبناؤه على تعريف الخسارة والربح هو بلد آيل إلى الزوال. ولا يسعنا نحن الباقين على هذه الأرض لأنّ أغلبنا ليست له بدائل، إلّا أن نتذكّر كلّ خسائرنا، وأن نقطع الشكّ باليقين بأنّ من مات منّا جميعاً جرّاء تتابع النكبات كان خسارة لنا جميعاً.
حتماً ليس لدينا ما يمضي بنا إلى نهايات رابحة، لكنّ السجال على “المايوه” و”الملحمة” و”الكحول” في هذا الظرف، لحظة “الجوع” الكبير، والانهيار المالي الأسوأ، يزيدنا ضعفاً على ضعف، وهذا الشيء الوحيد المؤكّد.