انتهى مؤتمر القمّة العربية بجدّة بإعلانٍ جرى فيه استعراض سائر القضايا والمشكلات العربية، وهذا بحدّ ذاته لا يختلف عن مؤتمر القمّة بالجزائر على سبيل المثال. إنّما الجديد فيه المقاربة المختلفة. وهي تتمثّل في أمرين:
– الروح الجديد الذي يتجلّى في المصارحة والمصالحة وإقامة الجسور، والعزم السعودي على التصدّي للمشكلات كلّها بالمعالجة والحلول ولو بالتدريج. ويبدو ذلك في الاتفاق السعودي-الإيراني من قبل القمّة ومن بعدها على استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتساعُد في اجتراح معالجاتٍ وحلولٍ في المواطن التي لإيران تداخلٌ فيها في البلدان العربية.
– والمَثَل الآخر للمصارحة والمصالحة إعادة سورية إلى الجامعة العربية، وحضور رئيسها بشار الأسد لقمّة جدّة.
مشكلات لبنان ظاهرة التحدّد. وبعضها لا يستطيع القيامَ به غيرُ اللبنانيين، ولا فائدة كبيرة من حَزْر وتخمين الموقف السعودي من سليمان فرنجية
إلى ذلك هناك هذا التدخّل الملحاح لإيقاف القتال في السودان بين الجيش وميليشيا الدعم السريع، والطرفان المتقاتلان يجتمعان منذ مدّةٍ بمدينة جدّة. وقد صدر إعلانٌ بشأن وقف النار. وأفضى ذلك الآن إلى إعلان هدنة أو وقفٍ للنار لمدّة أسبوع. وآخر الظواهر الجديدة هو هذا الإجماع العربي على استنكار ما يحصل بالقدس وبالمسجد الأقصى ومن حوله، والمبادرة هذه المرّة إلى التأكيد على تحرّكٍ سريعٍ للخروج من دائرة ردود الفعل الفاترة، والوقوف من وراء مصر والأردن في عملهما لمواجهة التغوّل الإسرائيلي على الأرض والمقدّسات.
ماذا عن حصّة لبنان؟
نصل إلى لبنان: ففي بيان القمّة تركيزٌ على مطالبة اللبنانيين بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، وإجراء الإصلاحات الضرورية، والتضامن مع لبنان في قضية اللاجئين السوريين. وعلى هامش القمّة هناك الكلمة التي ألقاها رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، وحديثه مع الرئيس السوري بشار الأسد، وأحاديثه مع الحاضرين في مشكلات لبنان. بل إنّه في كلمته دعا العرب إلى الاصطياف بلبنان في هذا الصيف. وفي مقرّرات القمّة، إقرارٌ لِحَقّ لبنان في تحرير أرضه بالوسائل المناسبة أو المتاحة في حين لم يرد هذا النص في البيان الختامي. وكأنّما فهم الحزب المسلَّح ورود النّص حرفياً في المقرارات فأجرى تظاهرةً عسكريةً للتحرير السريع.
الواضح أنّ مشكلات لبنان ظاهرة التحدّد. وبعضها لا يستطيع القيامَ به غيرُ اللبنانيين، ولا فائدة كبيرة من حَزْر وتخمين الموقف السعودي من سليمان فرنجية. أمّا البعض الآخر فلا يمكن التصدّي له إلّا بالمعاونة السعودية والعربية. ومن ذلك صناعة المخدّرات وتجارتها وتصديرها إلى الدول العربية، وإعادة النازحين السوريين إلى وطنهم. والأمل أن يساعد السعوديون والخليجيون لبنان في حلّ مشكلاته الاقتصادية. في الأمر الأوّل (المخدّرات) يبدو أنّ لبنان سيستفيد، بدليل خطاب نصر الله الغريب عن عدم علاقة الحزب المسلَّح بصناعة المخدّرات وتصديرها. ومن جهةٍ أُخرى هناك الإصرار الأردني، سواء في قصّة المخدّرات أو في قصّة النازحين السوريين على أرضه.
إعادة النازحين السوريين
في إعلان جدّة كلامٌ عن تهيئة الظروف أو تحسينها لتمكين سورية من استقبال اللاجئين إلى الأردن ولبنان. وتهيئة الظروف هذه هي في ترجمة وزير الخارجية السوري إعادة الإعمار، وهي عمليّةٌ طويلةٌ لأنّ الأميركيين والأوروبيين قالوا إنّهم لن يساعدوا في ذلك ولن يفكّوا الحصار إلّا إذا سار النظام في الحلّ السياسي بحسب القرار رقم 2254. وهم يعتمدون في ذلك عمليّاً على تقارير المندوب الأممي الذي يسعى عبثاً منذ سنوات إلى إقناع النظام بالحلّ السياسي الذي غادره النظام عمليّاً لصالح آليّة أستانا التي عادت للعمل بعد توقّف في الاجتماع الأخير لأطرافها بروسيا. والأطراف هي روسيا وإيران وتركيا والنظام السوري. فهل يسعى العرب والسعوديون في الطليعة إلى التواصل مع الأميركيين والأوروبيين…. والروس، من أجل التقارب أو إعادة المسار السلمي؟ بخاصّةٍ أنّ القرار الدولي أُعيد إلى الأذهان في بيان جدّة بين وزير الخارجية السوري ووزير الخارجية السعودي قبل القمّة، وكأنّه كان من شروط عودة سورية إلى الجامعة؟
في إعلان جدّة كلامٌ عن تهيئة الظروف أو تحسينها لتمكين سورية من استقبال اللاجئين إلى الأردن ولبنان. وتهيئة الظروف هذه هي في ترجمة وزير الخارجية السوري إعادة الإعمار
لا نعرف حتى الآن من أين يبدأ السعوديون التواصل مع الأطراف لحلحلة العُقد حسب النهج التصالحيّ الجديد، على الرغم من توتّر العلاقات بين الأميركيين والروس، وبين الأميركيين والأتراك، وبين الأميركيين والإيرانيين. وميقاتي يريدهم بالمناسبة أن يساعدوا لبنان في الحوار الداخلي.
على الرغم من “الانتصار” الظاهر للنظام السوري، يواجه تحدّياً حقيقياً ومعه الحزب المسلَّح في مسألة المخدّرات، ولبنان طرفٌ ضعيفٌ لهذه الناحية بعكس الأردن الذي بدأ حربه على المخدّرات بالإغارة على الداخل السوري. وكذلك الأمر في قضيّة النازحين السوريين على أرضه. فلا سلطة إلّا له على الأرض الأردنية. وحتى مخيّمات اللاجئين فيها انضباطٌ شديد، وإن تعهّد الأردن أن لا يعيد اللاجئين إلّا طوعاً. كما أنّ الجهات التي جاء منها اللاجئون تقع على حدوده مع سورية، والنظام السوري (وحده) هو المسيطر في الناحية الأخرى. وبسبب انتظام علاقات الأردن مع الجهات الغربية الداعمة للّاجئين، يمكن أن نتصوّر تعاوُناً معها أيضاً بحيث تجري مساعدة العائدين بداخل وطنهم، دونما انتظار لإعادة الإعمار الطويلة الأمد.
يقال إنّ النازحين إلى لبنان من سورية صار عددهم مليونين. وأكثر من نصفهم من مناطق الحدود والقلمون وحتى حمص. وهي مناطق في سورية يتمركز فيها الحزب المسلَّح والميليشيات الإيرانية، وبسبب الطابع الطائفي الغلّاب فإنّ النظام السوري أيضاً غير مهتمٍّ بإعادتهم، وإعادة الإعمار حجّة للتعجيز. ثمّ إنّني لا أظنّ أنّ الخليجيّين متحمّسون لمساعدة النظام بالدفع المالي بهذه السرعة، دونما تنسيقٍ مع الدوليّين واقتناعٍ بالجدوى. فالمشكلات عويصةٌ لهذه الناحية. وقد كانت علاقات الرئيس السابق ميشال عون والحزب وثيقة مع النظام في السنوات الماضية، ومع ذلك ما حدث شيءٌ كبيرٌ لهذه الجهة، على الرغم من الكلام المبالغ فيه جدّاً عن أنّ النظام استقبل نصف مليون من العائدين من لبنان.
هل يستفيد لبنان من المصالحة السعودية/الإيرانية؟
حتى الآن ما بدا شيءٌ كثير أو كبير. فالأوضاع في اليمن تزداد سوءاً ولا تتحسّن. وما تزال السفن التجارية في بحر عُمان ومضيق هرمز تتعرّض للمصادرة أو الاحتجاز من جانب الزوارق الإيرانية. لكنّ الإيرانيّين تتكرّر تصريحاتهم عن تحسين العلاقات مع دول الجوار، وبخاصّةٍ السعودية. إنّما كيف يتجلّى ذلك؟ لا وضوح حتى الآن وإن لم ينتهِ الأمل في اليمن كما في لبنان.
إقرأ أيضاً: الجامعة العربية واستراتيجية لا شرق ولا غرب
قمّة جدّة حدثٌ ضخمٌ لا يجوز التقليل من تأثيره أو تداعياته. واللبنانيون يأملون أن تكون التداعيات كثيرة: تسهيل انتخاب رئيس، والمساعدة الاقتصادية، وضرب تجارة المخدّرات، وإعادة اللاجئين. هو الأمل الذي لا شفاءَ منه بالإذن من فواز طرابلسي، وكتابه “عن أمل لا شفاء منه”، حين كتب يومياته خلال حصار بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان. الأمل بالعرب لدى معظم اللبنانيين. ولبنان هذه المرّة تحاصره الأزمات من كلّ جانب، ربما أقسى من الحصار الإسرائيلي. إنّما الفرق أنّ المسؤول العربي عنده شريك أردني يمكنه الحديث معه، في حين لا يستطيع المسؤول اللبناني أن يضمن شيئاً للشريك السعودي دونما حديثٍ مع الحزب، الذي ما يزال يسيطر على المرافق، وعلى القرار السياسي.