عبّرت اللقاءات التي عقدت قبيل وخلال اجتماع القمّة العربية وما رشح عنها من مواقف عن إدراك حقيقي للتحولات التي يشهدها العالم ولمؤشرات تشكّل منظومة جديدة من العلاقات الدولية وربما عالم جديد تحكمه موازين قوى جديدة. المواقف المعلنة حيال المتغيرات والمخاطر المترتبة عليها والتي ارتقت عن كلّ ما عهدناه في أزمات سابقة، توحي بأن المنشود هو عدم الإكتفاء بالتأقلم مع المنظومة الجديدة بل المساهمة في صياغتها والتأسيس لوعي جديد يعيد ترتيب الأولويات العربية والإقليمية والدولية. ويمكن القول أن نجاح الدبلوماسية العربية في تجنب الإلتحاق بالصراعات التي استعرّت خلال العام المنصرم والإسهامات في تسوية النزاعات القائمة أو التخفيف من وقعها، هو ما سيطبع المنهجية الجديدة للجامعة في رسم معالم خارطة طريقها، وهو ما سيعطيها بعداً دولياً ريادياً في ظلّ المسارات المعطلة والمتعثرة في أكثر من أزمة دولية وإقليمية.
عبّرت اللقاءات التي عقدت قبيل وخلال اجتماع القمّة العربية وما رشح عنها من مواقف عن إدراك حقيقي للتحولات التي يشهدها العالم ولمؤشرات تشكّل منظومة جديدة من العلاقات الدولية
الجامعة تتبنّى اتفاق بكين
لا شك أن الجامعة تبنّت بقوة الإتّفاق السعودي الإيراني بما يشكّل نموذجاً يُبنى عليه في مقاربة الأزمات الإقليمية. بهذا المعنى قال الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط “نتطلع إلى أن يُمثّل هذا الإتّفاق خطوة حاسمة لحل الخلافات والنزاعات الإقليمية بالطرق الدبلوماسية مع دول الجوار وتحديداً إيران وتركيا”. وأضاف في سياق التأكيد على الصعوبة الشديدة في اتّخاذ المواقف في زمن الإستقطاب بين القوى الكبرى “علينا دائماً التشبث بالمصالح الوطنية لدولنا كبوصلة هادية لمواقفنا، هذا ما فعلته الجامعة العربية إبان اندلاع الحرب في أوكرانيا، وأظن أنّ علينا الإستمرار في التحرك والعمل ككتلة موحدة، فهذا ما يُعطي مواقفنا ثقلاً ويمنحها وزناً ويوفر المظلة الحامية لمنطقتنا من شرور الإستقطاب والصراع في قمّة النظام الدولي”.
وإذ أشار أبو الغيط، في كلمته خلال الجلسة الإفتتاحية لاجتماع وزراء الخارجية التحضيري للقمّة العربية – إلى الأزمة في السودان، إلى جانب الأزمات التي تشهد مرحلة من الجمود دون حلّ في كلّ من سوريا، واليمن وليبيا مشيداً بالقرار المتّخذ في 7 مايو/ أيار حول سوريا الذي “انطوى على مقاربة شاملة للأزمة، ومهد الطريق لانخراط عربي أكبر وأكثر فاعلية”، والى خطورة ما يحصل في الداخل الفلسطيني معرباً عن التمسك بمبادرة السلام العربية المتّخذة في قمّة بيروت 2002 بعناصرها كافة التي “تظل خيارنا الاستراتيجي الأول لإنهاء الإحتلال” – فقد كان واضحاً في التركيز على خطورة هذه الأزمات على استمرار الدولة واستقرارها ووحدة أرضها وسلامة مؤسساتها الوطنية، معتبراً قمّة جدة فُرصة يتعيّن اغتنامها من أجل وضع حدّ لكافة المظاهر المُسلّحة والعودة إلى المسارات السياسية.
وفي سياق التأكيد على البعد الدولي للقمّة العربية ونجاح الدبلوماسية العربية في تأكيد حضورها، شدّد المبعوث الأممي إلى سوريا “غير بيدرسون” على أهمية التوفيق بين المبادرة العربية حيال الأزمة السورية ومسار موسكو الذي يضم كل من روسيا وإيران وتركيا وسوريا إلى جانب الموقفين الأميركي والأوروبي، بما يشكّل مزيداً من الإنخراط الدولي ورؤية شاملة للمضي قدماً نحو إيجاد حل سياسي، داعياً دمشق الى استثمار “نافذة الفرصة” للتحرك نحو التسوية، ومشيراً إلى دعم جميع الدول لمقاربة “الخطوة مقابل خطوة” التي تضمن اتّخاذ جميع الأطراف لإجراءات “متوازية ومتبادلة ويمكن التحقق منها”.
الإطار المنهجي للقمّة لم يسمح باستثمار استعراضي في جلساتها لأيٍّ من الأطراف المدعوّة أو اعتبار السعي لمشاركة وحضور كل الدول الأعضاء بمثابة العودة عن خطأ ارتكب في سنوات سابقة
عودة الجامعة العربية
الجدير ذكره أن الجامعة العربية التي سبق أن غابت عن الإضطلاع بدورها في الأزمات العربية تعود اليوم لتؤكد على مسؤوليتها ولكن على تموضعها في الوقت عينه فوق الصراعات الدولية والإقليمية. وهي إذ تنأى بنفسها عن مقاربة أي صراع داخلي عربي إلا من قبيل احترام سيادة الدول واستقرارها وإطلاق المسار السياسي بين الأطراف المتنازعة كسبيل وحيد لأي تسوية داخلية، بما يعني استحالة استدراجها لأي اصطفاف داخلي، فإن مقاربتها للأزمات سواء في السودان أو سوريا أو لبنان لن تكون سوى في حدود الحفاظ على الأمن القومي العربي بمعناه العريض بأبعاده الأمنية والسياسية والإقتصادية وبما يحدّ من التدخلات الخارجية ويضعها في إطارها الصحيح. وفي هذا السياق ستبوء بالفشل كلّ محاولات إدخال الجامعة أو أيٍ من دولها المركزية في ثقوب الخلافات الداخلية والصراع على السلطة سواء في لبنان أو في سوريا أو سواهما وبالمقابل سيكون كل من يتعرض للأمن القومي أو المجتمعي العربي تحت وطأة سيف مصلت لقرار جامع تتّخذه الجامعة وليس ما قام به الطيران الأردني في الداخل السوري سوى عيّنة من الإضطلاع بالمسؤولية حيال التهديدات العابرة للحدود.
إقرأ أيضاً: قمّة التحدّيات والأمل
إذن الإطار المنهجي للقمّة لم يسمح باستثمار استعراضي في جلساتها لأيٍّ من الأطراف المدعوّة أو اعتبار السعي لمشاركة وحضور كل الدول الأعضاء بمثابة العودة عن خطأ ارتكب في سنوات سابقة. هذا ما حاولت بعض الدول الإقليمية قراءته في الإتّفاق الإيراني السعودي أو في المبادرة لعودة سوريا الى الجامعة، وبالمقابل ما تمّ تفسيره من قبل الولايات المتّحدة وحلفائها “بالتوجه شرقاً”. وربما تكون دعوة الرئيس الأوكراني “فولادومير زيلينسكي” لحضور القمّة تأكيد على الموقف المتوازن للرياض حيال الأزمة الأوكرانية وقدرتها على لعب دور الوسيط بين كييف وموسكو، والتأكيد على “استراتيجية لا شرق ولا غرب” التي اعتمدتها المملكة وتعتمدها الجامعة مجدداً حيال الصراعات الدولية.
* مدير المنتدى الاقليمي للإستشارات والدراسات