أفصحت الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية يوم الأحد الماضي، عن مشهد سياسي شديد التنوّع كما هي حال المجتمع التركي المتوزّع على اتّجاهات محافظة (إسلامية) وقومية ويسارية وعلمانية، لكنّه ينقسم عمودياً بين كتلتين إسلامية وعلمانية، وهو ما يجعل من غير الممكن ترجيح كفّة على أخرى، أو تحقيق حسم واضح لكتلة في مواجهة أخرى. لقد نجحت الكتلة المتديّنة في تركيا بعد نضال طويل منذ تأسيس الجمهورية التركية ذات الطبيعة العلمانية المتشدّدة قبل قرن، في تصدّر الحياة السياسية بقيام حزب العدالة والتنمية عام 2001 على أنقاض ثلاثة أحزاب إسلامية أو محافظة اجتماعياً وليبرالية اقتصادياً: حزب الفضيلة الذي أسّسه الإسلامي نجم الدين أربكان عام 1997 وحظرته المحكمة الدستورية عام 2001 لانتهاكه مبدأ العلمانية، وحزب الوطن الأمّ الذي أسّسه الرئيس السابق تورغوت أوزال عام 1983، وحزب الطريق القويم الذي أُسّس عام 1983 خلفاً لحزب العدالة الذي كان ناشطاً في الستّينيّات والسبعينيّات قبل حظره عام 1980. وكان الرئيس السابق سليمان ديميريل الشخصية المهيمنة في حزب الطريق القويم.
حلف الجمهور ضدّ حلف الأمّة
ثمّة كتلة إسلامية صلبة نواتها الأساسية حزب العدالة والتنمية بعد استئصال جماعة فتح الله غولن إثر الانقلاب الفاشل عام 2016، وتدور حولها تيارات صغرى، وحجمها الانتخابي الصافي يبلغ ثلث الناخبين في أقلّ تقدير. توازيها كتلة علمانية صلبة تدور رحاها حول حزب الشعب الجمهوري ومعها ثلث آخر من الناخبين، وبين هؤلاء وهؤلاء تتناثر أحزاب قومية ويسارية صغيرة. ولكي يفوز حزب إردوغان المنشقّ عن حزب أربكان كان عليه التحالف الضمنيّ عام 2017 مع حزب الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي. وجذب إليه في هذه الانتخابات فاتح أربكان، نجل نجم الدين أربكان مؤسّس الحركة الإسلامية في تركيا، وحزبه هو حزب الرفاه الجديد، وحزباً إسلامياً كرديّاً هو حزب “هدى بار”، وحزب الاتّحاد الكبير، وهو حزب منشقّ عن الحركة القومية لكنّه ذو توجّه إسلامي. أمّا حزب الشعب الجمهوري فلجأ إلى الأسلوب نفسه في هذه الانتخابات فعقد حزب الشعب الجمهوري تحالفاً مع خمسة أحزاب أخرى، هي الحزب الجيد بقيادة ميرال أكشينار المتمرّدة على زعيم الحركة القومية بهجلي، وحزب السعادة الإسلامي بقيادة تمل كرم الله أوغلو، وهذا الحزب أُسّس عام 2001، وهو وريث حزب الفضيلة المحظور وكان بقيادة أربكان، وحزب التقدّم والديمقراطية بقيادة الوزير السابق للاقتصاد والخارجية في حكومات العدالة والتنمية علي باباجان الذي استقال من الحزب الحاكم عام 2019، وحزب المستقبل بقيادة البروفسور أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق، الذي استقال بدوره من الحزب الحاكم عام 2019 مع أنّه كان من أبرز منظّريه وشخصيّاته القيادية، والحزب الديمقراطي بقيادة غول تكين أويصال الذي يستلهم أفكار الحزب الديمقراطي (التاريخي) بقيادة عدنان مندريس، الذي أُسس عام 1946، قبل أن يعدم الانقلابيون العسكريون مندريس عام 1961 لانتهاكه الدستور العلماني، ويحلّ الحزب عام 1981. وهو أيضاً نتيجة اندماج حزب الوطن وحزب الطريق القويم عام 2007.
بغضّ النظر عمّن سيفوز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إردوغان أو غريمه، فإنّ الأرقام والنسب في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تُفصح عن نتائج سياسية بالغة الأهمية
تحالف الأمّة، أو “الطاولة السداسية”، يستند إلى نواة صلبة تتمثّل في حزب الشعب الجمهوري. والأحزاب الخمسة المتحالفة معه هي مشتقّات من حزب العدالة والتنمية، أو تنزح من الوعاء نفسه لتحالف الجمهور، المكوّن من الإسلاميين الحركيين ومن المحافظين القوميين. وفوق ذلك، ظهر أنّ المرشّح الرئاسي لتحالف المعارضة كمال كليجدار أوغلو يستند بشكل رئيسي إلى مؤيّدي حزب الشعوب الديمقراطي، اليساري الكردي الملاحَق قضائياً. وهذا الحزب أُسّس عام 2012، وزعيمه صلاح الدين دميرطاش معتقل منذ سبعة أعوام بتهمة الإرهاب وارتباطه بحزب العمّال الكردستاني وقائده المسجون عبد الله أوجلان. شارك دميرطاش في الانتخابات الرئاسية عام 2014 وحاز أقلّ من 10% من الأصوات. وهو ما يفسّر النتيجة المتقدّمة التي حقّقها مرشّح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فمرشّح حزب الشعب الجمهوري محرم إنجه حصل في انتخابات عام 2018 على أكثر من 30% من أصوات الناخبين في مواجهة إردوغان. فيما حصل مرشّح الحزب نفسه وزعيم تحالف الأمّة كمال كليجدار أوغلو على ما يقارب 45% من الأصوات في مواجهة إردوغان، أي بزيادة 15%، وتمكّن من فرض جولة ثانية من الانتخابات بعد أسبوعين.
لقد تحوّلت المعركة من صراع أحجام خالصة بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، إلى صراع تحالفات متداخلة أيديولوجيّاً ومتوافقة مصلحيّاً. فالموالاة تريد الحفاظ على مكتسباتها التاريخية، وهي في السلطة منذ أكثر من 20 عاماً، فيما تريد المعارضة خلع إردوغان عن عرشه، وقد جعل النظام رئاسياً على شاكلته وشكل طموحاته الكبرى.
قراءة أوّليّة في الأرقام
بغضّ النظر عمّن سيفوز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إردوغان أو غريمه، فإنّ الأرقام والنسب في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية تُفصح عن نتائج سياسية بالغة الأهمية، سترسم المشهد الإجمالي في المرحلة المقبلة، وتكشف عن إرهاصاتها المتوقّعة في سياق تشكيل موقع تركيا في السياسات الإقليمية والدولية، والهويّة القومية والأيديولوجيّة للدولة التركية.
-أوّلاً، حصل الرئيس إردوغان في الجولة الأولى على أقلّ من 50% من أصوات الناخبين الذين بلغ عددهم الإجمالي 64 مليون ناخب مسجّل، أي انتخبه أكثر من 27 مليون ناخب في الداخل والخارج، بمقابل حصول زعيم المعارضة على أقلّ من نسبة 45%، أو ما يعادل 24.5 مليون ناخب. وبالمقارنة مع أرقام الانتخابات الرئاسية الماضية، فقد حاز إردوغان نسبةً تزيد على 52% من أصوات المقترعين البالغ عددهم أقلّ بقليل من 60 مليون ناخب مسجّل، وبما يعادل أكثر بقليل من 26 مليون ناخب. وهذا يدلّ على ثبات شعبية إردوغان نسبياً بين عامَيْ 2018 و2023، لكنّ هذا الثبات بالنظر إلى زيادة ما يقارب خمسة ملايين ناخب جديد، يؤكّد أنّ إردوغان خسر بعضاً من الأصوات المؤيّدة له، أو مال عدد كبير من الشباب الذي ينتخب للمرّة الأولى، إلى التغيير، وهو ما أظهرته نتائج الانتخابات في مدينة إستانبول، علماً أنّ إردوغان بنى مجده على إنجازاته كرئيس بلدية إستانبول بين عامَيْ 1994 و1998.
إقرأ أيضاً: تركيا جديدة بعد الانتخابات: أميركا وروسيا “على المفرق”
-ثانياً، حافظ حزب العدالة والتنمية على مستواه بين الأحزاب وحجمه النسبي في البرلمان، مع تسجيل تراجع محدود بين انتخابات عام 2018 وهذه الانتخابات. ففي عام 2018 حاز نسبة 42.56% (295 مقعداً) من الناخبين، أي أكثر من 21 مليون صوت، في حين أنّه في الانتخابات الأخيرة حاز نسبة 35.58% (267 مقعداً)، أي أكثر من 19 مليون صوت، بتراجع مليونين عن الانتخابات الماضية. ويُعتبر هذا التراجع محدوداً على الرغم من المدّة الطويلة التي حكم فيها حزب العدالة والتنمية، إذا أُخذ بعين الاعتبار نشوء أجيال جديدة لا تعرف ظروف التأسيس ولم تشهد الإنجازات الأولى، وأنّ الأعوام الأخيرة شهدت أزمات سياسية (توتّرات مع الدول المجاورة ومع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) واجتماعية (استقبال ما يقارب 4 ملايين لاجئ سوري مع ما ترتّب على ذلك من تنافس على الموارد وصعود الشعور القومي العنصري)، واقتصادية (تراجع سعر الليرة التركية إزاء الدولار الأميركي، وتصاعد التضخّم، وارتفاع نسب البطالة لا سيّما بين الخّريجين الجدد)، وفوق ذلك كله، زلزال مدمّر غير مسبوق في شباط الماضي خلّف أكثر من 50 ألف قتيل وأضعافهم من الجرحى والنازحين، وتدمير مناطق هي محسوبة أصلاً على الحزب الحاكم، وخسائر تتجاوز 30 مليار دولار. تشير هذه النتيجة غير المتوقّعة إلى أنّ الكتلة الإسلامية التركية أظهرت في أصعب الظروف أنّها “عصبية” انتخابية وسياسية، ومن الممكن أن تستمرّ إلى ما بعد حكم إردوغان، سواء فاز هذه المرّة أم لا. بالمقابل، فإنّ الهزيمة الكبيرة للمعارضة العلمانية (حزب الشعب الجمهوري خاصة) رئاسياً وبرلمانياً على الرغم من التحالف العريض مع إسلاميين وقوميين، وعجزها عن الاستثمار رمزياً في مقولة التغيير، وتعثّرها في تقديم خطاب مقنع للناخب المحافظ المؤيّد تقليدياً للأحزاب القومية والإسلامية، ستؤدّي إلى انحدار التيار العلماني عامّة في تركيا، ونشوء أزمات داخلية داخل الحزب العلماني الرئيسي، وانفراط عقد الطاولة السداسية، واندثار أحزاب المنشقّين عن حزب العدالة والتنمية، وبدء البحث جدّياً في العودة إلى النظام البرلماني، لأنّه الأكثر تمثيلاً للمكوّنات السياسية والاجتماعية، في حين أنّ النظام الرئاسي لا يتناسب مع قادة جدد سيخلفون إردوغان بعد حين، ولن يكونوا بتلك القدرة والمهارة على السير بتركيا الحديثة نحو آفاق المستقبل.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@