تشارلز ملكاً وديانا “ملكة” القلوب

مدة القراءة 5 د

السادس من أيار. يوم انتظره البريطانيون والعالم. تتويج الملك تشارلز الثالث بعد ثمانية أشهر على وفاة والدته الملكة إليزابيت الثانية. الملكة الخالدة.

عشيّة الاحتفال افترش آلاف البريطانيين الأرض حول قصر باكنغهام وعلى طول الطريق المؤدّي إلى كاتدرائية وستمنستر. وعلى مدى ساعات تصبّرت عيون الملايين حول العالم أمام الشاشات. المناسبة نادرة. فهي لا تتكرّر كلّ يوم ولا كلّ سنة ولا كلّ عقد. آخر تتويج على العرش الأهمّ في العالم جرى في عام 1952. كانت الصور بالأبيض والأسود. والبثّ المباشر لم يكن موجوداً. شوهد الاحتفال بعد ساعات أو أيام من قبل قلّة محظوظة. فالتلفزيون لم يكن بمتناول كلّ الناس. العديد من شعوب الأرض لم تكن قد سمعت به. ومن بينها شعوب في المملكة التي لم تكن تغيب الشمس عن أراضيها حينذاك وجذورها ضاربة في التاريخ.

أكثر ما ميّز احتفال تتويج الملك تشارلز الثالث التنوّع الدينيّ والعرقيّ واللغويّ. للمرّة الأولى شارك رجال دين يهود ومسلمون وبوذيون وسيخ وهندوس في حفل تتويج ملك بريطانيا، “حامي الإيمان البروتستانتي” ورئيس الكنيسة الأنغليكانية

تقاليد من العصور الوسطى

للحظات لم تصدّق عيناي ما ترى عبر الشاشة. تقاليد من العصور الوسطى في القرن الواحد والعشرين. ملك يُتوّج في احتفال دينيّ ملكاً على مملكة ورئيساً لكنيسة! احتفال ديني بامتياز. أُقيم في وستمنستر، حيث يجري تتويج ملوك بريطانية منذ عام 1066. محوره ذبيحة إلهية بحسب الليتورجية الأنغليكانية. رأسها جاستن وِلبي، رئيس أساقفة كانتربري. ليتورجية دينيّة – سياسيّة! ملك يُمسح بالزيت المقدّس، وهو تقليد يعود إلى ما قبل المسيحيّة. شارات ملكيّة على المذبح. لكلّ منها رمزية دينيّة – سياسيّة على الرغم من أن لا دور دينيّاً ولا دور سياسيّاً فعليّاً لوريث العرش البريطانيّ: السيف رمز العدالة. سوار اليد رمز الحماية الإلهيّة. الكفّ الأبيض رمز الرحمة. الخاتم رمز العهد بين الله والملك وبين الملك والشعب. العصا باليد اليمنى رمز السلطة الملكيّة. والأخرى باليد اليُسرى رمز العهد والسلام. بعد تسليم الشارات الملكيّة للملك الجديد توجّه رئيس الاحتفال نحو المذبح بدعاء إلى الله: “يا ملك الملوك بارك ملكنا تشارلز”. بعدها وضع التاج المرصّع بـ 2,868 ماسة على رأس الملك. تراجع خطوتين وصرخ: “ليحمي الله ملكنا”. صرخة تردّدت في الكنيسة وخارجها. ووصلت أصداؤها إلى أقاصي الشرق والغرب من الكرة الأرضية حيث لا يزال الملك البريطانيّ ملكاً لدول الكومنولث.

بريطانيا الكوزموبوليتيّة

أكثر ما ميّز احتفال تتويج الملك تشارلز الثالث التنوّع الدينيّ والعرقيّ واللغويّ. للمرّة الأولى شارك رجال دين يهود ومسلمون وبوذيون وسيخ وهندوس في حفل تتويج ملك بريطانيا، “حامي الإيمان البروتستانتي” ورئيس الكنيسة الأنغليكانية. وقرأ رسالة مار بولس ريتشي سوناك رئيس الوزراء الهندوسي. وتُلِيت صلوات باللغات الغاليّة والاسكوتلندية والإيرلندية. كما أنشد فريق من الغوسبل (Gospel)، أفراده من السود، ترتيلة مع رقص بالأيادي وتمايل بالخصور على طريقة الشعوب الإفريقيّة التي استعمرتها فيما مضى الإمبراطورية البريطانيّة وتشكّل اليوم جزءاً كبيراً من الشعب البريطانيّ.

بعد انتهاء مراسم تتويج الملك، قام رئيس الاحتفال بتتويج كاميلا ملكة. الأمير فيليب لم يحصل على اللقب. والسبب أنّ الملكة لا يمكنها منح اللقب لزوجها. إنّه حقّ للملك فقط. استعمل تشارلز هذا الحقّ

انفتاح دينيّ وعرقيّ وإثنيّ تتميّز به المملكة المتّحدة. وقد برز بوصول بريطاني من أصول هندية إلى “10 داونينغ ستريت”. وانتخاب المسلم حمزة يوسف، من أصول باكستانيّة، رئيساً لحكومة اسكوتلندا. يعكس هذا الانفتاح تاريخ العلاقة بين بريطانيا العظمى ومستعمراتها الذي تحوّل من حكم استعماري إلى علاقات صداقة. في حين أنّ جارتها على الضفّة الأخرى من بحر المانش، لا تزال تسعى إلى تنقية ذاكرتها التاريخيّة مع الجزائر على الرغم من وجود ملايين الفرنسيين من أصول جزائرية! جنودها يُطردون من الدول الإفريقيّة. وخسرت دورها منذ زمن بعيد في سوريا. أمّا أدوارها في لبنان فمرفوضة من غالبيّة اللبنانيين. وآخرها دورها في ملفّ الرئاسة اللبنانيّة.

المرأة في حفل التتويج

لعبت المرأة أدواراً لافتة وأساسيّة في احتفال التتويج. قد يكون أبرزها قراءة الإنجيل من قبل سارة مولالي أسقف لندن. مشهد ربّما لا يزال غير مألوف للعديد من البريطانيين وبالتأكيد لغير البريطانيين على اختلاف أديانهم وطوائفهم. شخصيّاً أُصبت بالذهول منذ حوالي عشرين عاماً حين التقيت للمرّة الأولى في إحدى محطات القطار في قلب لندن امرأة تضع “الكلريجمنت” حول عنقها (وهي شارة رجل الدين المسيحي وتستعملها الكنائس على اختلافها). المرأة الكاهن والأسقف تشكّل مسألة خلافية أساسيّة بين الكنيستين الأنغليكانية والكاثوليكيّة. فبالنسبة لهذه الأخيرة إنّها مسألة عقائدية وليس جندرية. تعود جذورها إلى حياة يسوع على الأرض. فهو اختار رجالاً رسلاً له. وكلّفهم بنقل البشارة. وهو الدور الذي يضطلع به حتى اليوم الأساقفة والكهنة والرهبان. أمّا النساء فكانوا معاونين للرسل. وهو الدور الذي تلعبه المكرَّسات اليوم في مختلف الكنائس.

إقرأ أيضاً: إليزابيث “الحبّابة” في عدن.. ويمني يعتمر عن روحها

ديانا ملكة القلوب

بعد انتهاء مراسم تتويج الملك، قام رئيس الاحتفال بتتويج كاميلا ملكة. الأمير فيليب لم يحصل على اللقب. والسبب أنّ الملكة لا يمكنها منح اللقب لزوجها. إنّه حقّ للملك فقط. استعمل تشارلز هذا الحقّ. منح حبيبته الأولى والأخيرة لقباً طالما انتظرته كاميلا. ولكن بالنسبة للعديد من البريطانيين ولشعوب الأرض وحدها ديانا تستحقّ هذا اللقب. فهي لا تزال ملكة القلوب على الرغم من مرور 26 عاماً على وفاتها التي وصفها أستاذ الصحافة سمير عطالله في مقاله في جريدة الشرق الأوسط بـ”تراجيديا يونانيّة”.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…