كأنما القرن العشرون انتظر رحيل الملكة اليزابيث الثانية لينطوي ويغيب. لا أدري لماذا خامرني هذا الشعور الغامض، أنا من عشت نصف عمري في القرن الحادي والعشرين.
أعود إلى أولى ما أذكره عن الملكة الراحلة في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، بعدما رحل بنا والدي عن وادي دوعن بحضرموت للإقامة في عدن عاصمة اليمن الجنوبي، وسمعت للمرة الأولى بعض جدات زميلاتي في المدرسة وأمهاتهن العدنيات يقلن إن ملكة بريطانيا اليزبيث “حبّابة”. كان وقع الكلمة غريبًا. ففي حضرموت كانت هذه الكلمة تطلق على الجدات، ويقال للجد “حبيب”. فكيف يطلقونها على ملكة الدولة الاستعمارية الأكبر والأعتى في العصر الحديث؟! هذا فيما كان التفاخر يشمل المرأة العدنية لمشاركتها في نشاط الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني في عدن.
وجاءت المفاجأة في صبيحة نهار الثلاثاء 13 أيلول الجاري: خبر في محطة بي بي سي عن يمني يؤدي مناسك العمرة في مكة المكرمة، حاملًا لافتة بيضاء كتب عليها أنه يعتمر عن روح الملكة إليزابيت الراحلة.
عدن الكوزموبوليتانية
لعل التفسير يعود في الزمن إلى تركيب مجتمع مدينة عدن الكوزموبوليتاني الذي ساهمت فيه بريطانيا، عندما استقدمت من شبه القارة الهندية جماعات من موظفي شركتها “الهند الشرقية” العالمية لتدير مصالح الإمبراطورية العظمى في عدن والمحميات الجنوبية والشرقية، وأطلقت يدههم في الإدارة، فحظوا بالسطوة والامتيازات والمكانة في عدن، لقربهم من حكومة التاج البريطاني في لندن. ولكنهم صاروا مع الوقت على قطيعة من مواطنهم الأصلية، وأصبحوا جزءًا من المدينة ووجهًا لتنوعها الاجتماعي، وينتمون إليها انتماء تامًا ويتمتعون بالمواطنة الكاملة فيها، وماعادوا يعلمون نسبًا آخر لهم سواها، في مشاعرهم وأحاسيسهم.
ربما كان ذاك الحنين إلى ماضي عدن الكوزموبليتاني، يقفز فوق سنوات الثورة الجنوبية وكفاحها المسلح ضد الاستعمار البريطاني الذي دام 129 سنة، وفوق قيام دولة وطنية مستقلة في حضرموت التي شهدت في سبعينات القرن المنصرم أعنف أحداث صدّرتها إليها مدينة عدن المستقلة حديثًا لتصبح عاصمة الجنوب وحضرموت. أحداث عنف وسحل واخفاءات قسرية للوجهاء والشخصيات الدينية المؤثرة في القبائل الحضرمية. لقد مارس “الرفاق”، فور تسلمهم الحكم من بريطانيا العظمى الاستعمارية، العنف الدموي ذاك في الجنوب كله، تحت شعار “تصفية أثار الاستعمار البريطاني البغيض”. فاستهدفوا رجال الدين ووجهاء القبائل والنخب التقليدية، مثقفين وتجارًا وسياسيين. وكان معظمهم تلقى تعليمًا نوعيًا في مدارس البعثات التبشيرية البروتستانتية البريطانية وسواها في عدن، أوابتعثوا للتعلم في بريطانيا.
وبعدما أنهى والدي إقامته في بلد الاغتراب المجاور، وجلب ما استطاع من أمواله وتجارته ليفتح محالًا وتجارة في عدن، كنا قد أُشبِعنا بسرديات خطاب “الرفاق” عن “الاستعمار البغيض” وزهو الكفاح ضد الاحتلال البريطاني وملكيته. ويا ما رددنا شعارات النضال وأهازيجه في الصباحات المدرسية. لذا رحنا نستغرب أن نسمع أمهات وجدات عدنيات يصفن ملكة بريطانيا بأنها “حبابتهن”. واكتشفنا في ما بعد أن ذلك الوصف، ملاذٌ نفسي ومعنوي تغلفه “نوستالجيا” إلى بدايات انتماء فئات اجتماعية ونسبها إلى عدن، موطن أجدادهم. وهم من أولئك الذين استقدمتهم الإمبراطورية البريطانية وتاجها في صبا الملكة إليزابيث من خلف المحيط، وآخرين من مناطق قريبة من الجنوب. كأنما الانتساب إلى عدن لا يتحقق إلا عبر الملكة “الحبّابة” وحنينهم المبالغ فيه إليها، ممزوجًا بحسرات مكتومة، كلما خطر ذكرها.
شهر عسل الملكة
يحضر في تاريخ عدن وتاريخ الملكة اليزابيث يوم استثنائي يتذكره العدنيون/ات كحلم ليلة صيف: في صبيحة يوم 27 نيسان/أبريل 1954، بعد اعتلاء إليزابيث العرش ووضع التاج الملكي رسميًا على رأسها، رسا في ميناء عدن سفينة حربية على متنه هي وزوجها الأمير فيليب. كانا في زيارة رسمية للمحمية البريطانية، ولتفقد أراضي المملكة التي كانت لا تغيب عنها الشمس. غير أن رواية العدنيين الشعبية مختلفة تمامًا. فهي تصرّ على أن الملكة الجديدة قررت أن تمضي شهر عسل زواجها في مدينتهم. وحقيقة أن الملكة تزوجت الأمير فيليب سنة 1947، أي قبل سنوات سبع من تلك الزيارة، لا تفقدهم إيمانهم بسرديتهم هذه. ولا حتى مؤرخو عدن تمكنوا من محو زواج الملكة وشهر عسلها في عدن من الذاكرة الشعبية العدنية، رغم توكيد المؤرخين أن الزيارة كانت رسمية، وقامت خلالها الملكة بافتتاح عدد من المشاريع وتفقد الجيش وأجهزة إدارة حكومتها.
وتصر الرواية إياها، والمنبعثة اليوم في مناسبة رحيل إليزابيث، على تمتع الملكة بأوقات رومانسية مع زوجها على شواطئ عدن الخلابة رغم شمسها اللاهبة، غير آبهين برأي الشاعر الفرنسي رامبو الذي سبق الملكة في حط رحاله في مدينتهم، وكتب في بداية إقامته فيها: “إنها أضجر مكان في العالم”.
لكن رامبو واصل العيش في عدن أكثر من أربع سنوات، يرعى مصالح تجارته نخاسًا للعبيد والأسلحة. ولعله كان يحقق في جو المدينة الجحيمي نبؤة عنوان ديوانه الأشهر: “فصل من الجحيم”. ولعل سكان عدن تصوروا أن مدينتهم تبعث على عشق غلاب جعل الملكة إليزابيث ترفض إلا أن تمضي شهر عسلها في مكان سواها. عشق جعل رامبو يتعلق بعدن ويرفض مغادرتها – حسبما تؤكد رسائله الأخيرة – إلا مغصوبًا بالمرض، وليموت في مدينته الفرنسية مرددًا عبارات المسلمين الذين غادرهم في عدن. وهذا ما دفع بالقس الذي زاره على فراش مرضه إلى رفض مناولته القربان المقدس، لظنه أنه لم يعد مؤمنًا مسيحيًا، حسب شهادة أخته ورواية المؤرخين.
وجاءت المفاجأة في صبيحة نهار الثلاثاء 13 أيلول الجاري: خبر في محطة بي بي سي عن يمني يؤدي مناسك العمرة في مكة المكرمة، حاملًا لافتة بيضاء كتب عليها أنه يعتمر عن روح الملكة إليزابيت الراحلة
إليزابيث وكاسترو
في ذلك اليوم الاستثنائي وتحت شمسه اللاهبة، ترجلت الملكة من يختها الفخم المسمى Surperise إلى رصيف ميناء عدن بخطوات رشيقة واثقة وجسد صغير نحيل وعينين ثاقبتين لامعتين وابتسامة عريضة. فهي كانت تخطو على أقاصي مكان في أراضي ملكها الذي لا يحد، رافعة يدها لجمهرة المستقبلين حاملين الورود لاهجين بولائهم للملكة الشابة. كانت السيارة الفخمة المكشوفة تنتظرها عند بوابة الميناء الذي كان يصنف حينذاك الرابع عالميا من حيث النشاط والأهمية وحركة التجارة. وتجولت السيارة بين صفوف المرحبين والسكان الفضوليين، في شوارع مدينة الميناء التواهي. وهي شطر من عدن صُمِّم كقطعة مصغرة من لندن: مكاتب إدارية وبيوت تنتهي أسطحها بقمم “ظهر الثور القرميدي” وشوارع مستقيمة متقاطعة، ومجسم عن ساعة بيغ بن اللندنية نصب على رأس هضبة تطل على الميناء.
وحسب الرواية الشعبية العدنية توجهت إليزابيث وعريسها نحو جناح ملكي في فندق كريسنت، أحد أفخم وأجمل الفنادق أنذاك. هذا الفندق كان قد بناه ثري حضرمي كقصر لسكنه، قبل أن يشتريه منه تاجر فرنسي شهير في عدن أسمه أنتوني بيس، فحوله فندقًا أنيقًا فخمًا. ومن المفارقات أن ذلك الجناح الذي بني خصيصًا للملكة وزوجها أنزل “الرفاق” فيه الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، حينما زار عدن أيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وحكم الرفاق “المتمركسين”. وبعدما أُمم الفندق قي إطار قرارات التأميم التي تضرر منها أكبر كيانيين ماليين وتجاريين في عدن: الحضارم وأنطوني بنس، قيل أن بعضهم أصيب بالشلل أو بسكتة قلبية مميتة، بعدما كانوا الوجوه الأبرز للأقتصاد والتجارة في الجنوب قبل الاستقلال. وهم من التزموا إنشاء أهم وأحدث وأطول شارع في عدن (شارع المعلا) خططته بريطانيا وصممته على النمط الأوروبي، وحوى مقاه ومطاعم ومتاجر تعرض ماركات الثياب العالمية.
“الرفاق” وقابوس وبريطانيا
ونُقِل عن السلطان قابوس – وهو درس وأقام مدة في مدينة عدن – قوله إنه تمنى إنشاء شارع على مثال شارع المعلا في عُمان. وقد فعل ذلك وأكثر بكثير. أما حكومة الاستقلال الفتية في جنوب اليمن، فبعدما أممت الشارع ذاك وصادرت محاله وبناياته، وزعت شققها على مواطنين قادمين من أرياف الجنوب، وأغلبهم من أسر الثوار الذين تسلموا الحكم، إلى آخرين من مناطق شمال اليمن القريبة كمدينة تعز وأب. وهم كانوا قدموا نازحين إلى عدن هربًا من البؤس تحت حكم الأمامة المتوكلية. وكانت بريطانيا تحتاج اليهم كعمالة رخيصة غير متعلمة يقومون بالعمل العضلي على أرصفة الميناء الرابع في العالم من حيث عبور السفن والنشاط التجاري. فالرئيس عبد الفتاح اسماعيل مثلًا نزحت أسرته من شمال اليمن إلى عدن أثناء حكم الاستعمار البريطاني في المدينة.
الموجة الثانية من النازحين إلى عدن كانوا من الهاربين من الحكم الجمهوري في الشمال، والذي لم يغير كثيرا من أوضاع الناس الملتبسة بالمشيخية القبلية والملكية البائدة. وفي إطار شعار “ديكتاتورية البروليتاريا” مكّن “الرفاق” مواليهم من أملاك التجار والشقق التي أممت، “وحُرِّرت من الاستعمار”. ونتيجة هذا التحرر تحول شارع المعلا الشهير (حلم السلطان قابوس) إلى شارعٍ كئيب بائس. ومع نشر “الرفاق” بالقوة الشعار المضحك: “محاربة تطلعات البرجوازية الصغيرة”، تحولت شرفات بعض بيوت الشارع المطلة على الميناء زرائب لحيوانات العصر الاشتراكي الداجنة التي جلبها بعض أقارب “الرفاق” معهم من الأرياف.
لاحقا بعد الوحدة بين الدولتين في الجنوب والشمال، عقد الإسلاميون صفقات مع النظام، فانتشر الخطاب الديني المتطرف، وحجبت تلك الشرفات بستائر بلاستيكية أو سدت بألواح خشبية.
إقرأ أيضاً: سبعون عاماً ملكة
اليمن الحالي البائس
بين زيارة اليزابيث الثانية إلى عدن – وهي الرمز الملكي للكولونيالية والنظام الرأسمالي – وزيارة الرئيس الكوبي فيدل كاسترو الرمز النقيض، شهدت عدن صعود الشيوعية وحكم البروليتاريا، حسب زعم النظرية الشيوعية. وشطح “رفاق” اليمن الجنوبي في تلقيهم الأوامر من موسكو المشرفة على إدارة دولتهم. فاندفعوا على غير هدىً بعملية تلقيح بيئة كانت وظلت شديدة المحافظة والتقليدية، تلقيحًا اصطناعيًا بالاشتراكية. أما حكومة التاج البريطاني في عهود الملكة إليزابيث فتعاملت بمكر مع الجنوب، من دون أن تمس عاداته وتقاليده إلا خارجيًا. ولم تحاول أن تغير في بنية التركيبة الاجتماعية المحلية، بل تعاملت معها حسب مصالحها، من دون أن تتمكن (وربما لم تكن تريد) من تصديع التركيب الهرمي المتوارث للقوى المجتمعية وما يحمله في طياته من ثقافة وتقاليد مضت عليها قرون. و”الرفاق” بدورهم لم يتمكنوا من تغيير تلك التقاليد، وهم بذلوا جهدًا لذلك.
رحلت الملكة القرنية إليزابيث الثانية، فاكتمل رحيل القرن العشرين معها.. فيما اليمن كله غارق في الشفاء والحرب والدم والجوع في القرن الحادي والعشرين.
* كاتبة يمنية