أزمة قانون التقاعد تابع.. فرنسا على موعدين: 1 أيّار و14 تمّوز

مدة القراءة 6 د

شهدت أزمة قانون التقاعد في فرنسا فصلين مهمّين وحاسمين الأسبوع الفائت. الأوّل تمثّل بإعطاء “حكماء فرنسا” الضوء الأخضر للقانون لمتابعة مسيرته نحو الإقرار النهائي. فقد اجتمع المجلس الدستوري يوم الجمعة الفائت (14 نيسان) وأقرّ القانون بغالبية بنوده، ولا سيما بند رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64، ورفض طلب بعض الأحزاب طرح القانون على الاستفتاء. أمّا الفصل الثاني فتمثّل بتوقيع الرئيس الفرنسي على القانون ونشره في الجريدة الرسميّة. على قاعدة “اضرب الحديد وهو حامٍ”، التقط الرئيس لحظة قرار المجلس الدستوري ووقّع القانون في الليلة ذاتها. وسيبدأ تطبيقه قبل نهاية العام الجاري بحسب الإليزيه، وبذلك وضع الرئيس الفرنسي النقابات والمعارضين للقانون أمام الأمر الواقع (un fait accompli).

الموعد في 1 أيّار
الشارع والنقابات لم يقفوا مكتوفي الأيدي. فقد رافقت اجتماع المجلس الدستوري في باريس تظاهرات وتجمّعات انفجرت بعد إعلان القرار وتحوّلت إلى مواجهات مع قوى الشرطة. أبرز المواجهات كانت في مدينة رين حيث أقدم المتظاهرون على إضرام النيران في دير أثريّ وفي مركز للشرطة وفي العديد من المرافق العامّة والممتلكات الخاصّة.
أطلق رؤساء النقابات العمّالية التهديد والوعيد من الشارع وعبر الشاشات. رفضوا دعوة ماكرون إلى الاجتماع في قصر الإليزيه للحوار. طالبوه بعدم توقيع القانون. وأعطوه موعداً في 1 أيّار، يوم عيد العمّال. الجدير ذكره أنّ فرنسا اعتادت أن تشهد لمناسبة عيد العمّال تظاهرات شعبيّة كبيرة تمتدّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ففي كلّ سنة ينظّم حزب لوبان الأب والابنة، وهو الحزب اليميني المتطرّف، تظاهرة في القسم الجنوبي – الغربي لباريس حيث الغالبية من الفرنسيين تؤيّد اليمين. واعتادت أحزاب اليسار، الحزب الشيوعي وحزب الخضر وغيرهما، أن تنظّم تظاهرات في القسم الشمالي – الشرقي للعاصمة حيث الغالبية من الفرنسيين المجنّسين والمؤيّدين لليسار.

فرنسا على موعدين مهمّين. أوّلهما قريب، في الأوّل من أيار، والثاني ليس ببعيد، في الرابع عشر من تموز. وبين الموعدين ستكون الجمهورية الخامسة على مواعيد كثيرة من الإضرابات والتظاهرات

ثلاث ورش وطنيّة كبرى
وصلت رسالة النقابات إلى الإليزيه، فتوجّه سيّده يوم الاثنين 17 نيسان بكلمة إلى الفرنسيين بهدف استيعاب الشارع والتخفيف من غضبه. استغرقت الكلمة 15 دقيقة فقط. ففي الديمقراطيات لا مطوّلات في الخطابات كما في الديكتاتوريات. يدرك الحاكم أنّ الشعب ليس مجبراً على سماعه، خاصّة في أزمنة الأزمات. لذلك ينتقي كلماته بعناية، ويحرص على إيصال الرسالة الأساسية بكلمات قليلة وخلال دقائق معدودات. ماذا قال ماكرون في كلمته؟
بدايةً دافع عن مشروع قانون التقاعد الجديد “الضروريّ لضمان الشيخوخة للجميع ولزيادة ثروات الأمّة الفرنسيّة”، على حدّ قوله. في المقابل اعترف بالمأزق الذي تواجهه البلاد بسبب اعتراض النقابات العمّالية وشريحة كبيرة من الفرنسيين على القانون. وأسف لعدم التوصّل إلى اتفاق بعد أشهر من النقاشات مع النقابات. واعترف بـ”الأزمة الاجتماعية”. ففي الديمقراطيات العميقة لا يمكن للحاكم تجاهل الأزمات كما في الديمقراطيات الاسمية والهشّة، ولا يمكنه وصف المتظاهرين بـ”شلعوطَين” وتجاهلهم على أنّهم أقلّيّة. و”الجواب” على الأزمة الاجتماعيّة لا يكون “بعدم القيام بأيّ شيء ولا بالتطرّف”، كما قال الرئيس الفرنسيّ،  فقد أعلن ماكرون في كلمته عن ثلاث ورش وطنيّة كبرى:
1- الورشة الأولى في شأن العمل. فقد دعا إلى “عقد جديد للعمل” يقوم على تفعيل الثانويّات المهنيّة ليحصل الشباب الفرنسي على تنشئة متميّزة تخوّلهم الانخراط في سوق العمل. ووعد بمضاعفة الجهود لانخراط المستفيدين من تقديمات الدولة في سوق العمل.
2- الورشة الثانية في مجال العدالة والنظام الجمهوري الديمقراطي. أعلن ماكرون تطويع أكثر من 10 آلاف قاضٍ وموظّف (في القضاء)، وتشكيل 200 فرقة من الشرطة “لمكافحة الجريمة والتهرّب الضريبي”، بخاصّة في الأرياف.
3- الورشة الثالثة في مجال التطوير، وبخاصّة في قطاعَي التعليم والصحّة. ولهذا الغرض وعد الرئيس الفرنسي بزيادة الأجور للأساتذة ابتداء من العام الدراسي المقبل. ووعد أيضاً “بمرافقة أكبر للطلّاب في اللغة الفرنسيّة والرياضيات والرياضة”، وبزيادة عدد الأطبّاء والطاقم الطبّي لتلبية حاجات الفرنسيين لمواجهة التحدّيات، كاشفاً أنّ عدد المصابين بالأمراض المزمنة سيبلغ 600 ألف في نهاية العام الجاري.

في ختام كلمته أعلن ماكرون أنّ هذه هي خارطة طريق حكومة إليزابيت بورن للمئة يوم المقبلة. وأعطى موعداً للفرنسيين في الرابع عشر من تموز (العيد الوطنيّ) لتقويم هذه الورشة الوطنيّة. ودعاهم إلى “التهدئة والوحدة والطموح والعمل من أجل فرنسا”.

المواجهة مستمرّة
هل نجح ماكرون في كلمته؟ ربّما في الشكل. أمّا في المضمون فلا شيء مضمون. فأيّ نجاح على هذا المستوى مرهون بقرار الشارع والنقابات الذين يصرّون على موقفهم الرافض للقانون. وقد أعلنت النقابات يوم الخميس يوم إضراب.
إذاً المواجهة مستمرّة. ربحت السلطة جولةً من خلال تصويت المجلس الدستوري وتوقيع الرئيس، وخسرت المعارضة جولة، إذ فشلت النقابات في الضغط على الرئيس لتأجيل توقيع القانون، وتعرّضت المعارضة السياسيّة لنكسة كبيرة برفض المجلس الدستوري إحالة القانون على الاستفتاء، لكنّها لن تتراجع. فقد تقدّم حزب جان لوك ميلانشون بطلب جديد لإحالة القانون على الاستفتاء، وسيكون على المجلس الدستوري بتّه في 3 أيار المقبل.

إقرأ أيضاً: فرنسا: زادت أعمارهم 15 عاماً.. ويرفضون العمل عامين إضافيين

في المقابل، إنفاذ القانون الذي وقّعه ماكرون تلزمه مراسيم تطبيقيّة سيكون على حكومة إليزابيت بورن إصدارها. فهل تقوم بذلك سريعاً كما فعل الرئيس؟! أظهرت الأسابيع السابقة تبايناً بين الرئيس، المصرّ على المضيّ قُدُماً في المشروع، ورئيسة الحكومة التي تتريّث وتشجّع على مزيد من الحوار مع النقابات.
فرنسا على موعدين مهمّين. أوّلهما قريب، في الأوّل من أيار، والثاني ليس ببعيد، في الرابع عشر من تموز. وبين الموعدين ستكون الجمهورية الخامسة على مواعيد كثيرة من الإضرابات والتظاهرات والعنف في واحدة من أشدّ الأزمات الاجتماعيّة والسياسيّة التي تواجهها.

 

*أستاذ في الجامعة اللبنانية

لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…