يستمر “الكباش” في فرنسا حول قانون التقاعد بين السطلة والنقابات. بالأمس كان اليوم العاشر للتظاهرات. كالعادة، التظاهرة الأكبر كانت في باريس. تظاهرات أخرى انطلقت في مختلف المدن الفرنسيّة. الحشود بعشرات الالآف. لكنّها أقلّ من يوم الخميس الفائت، وذلك بحسب مصادر الشرطة والنقابات على السواء.
عمّال النفايات في باريس أعلنوا تعليق الاضراب وسيبدأون رفع النفايات من العاصمة اعتباراً من اليوم.
تعِبَ الشارع؟
ربما. لكنّ الأزمة في بداياتها. وأحفاد ثورة 1798 لا يتعبون بسرعة. لكنّ أعمال الشغب التي رافقت تظاهرات الأسبوع الفائت لم تشجّع البعض على النزول إلى الشارع. فالوضع زاد تشنّجاً منذ الاسبوع الفائت الذي شهد أحداثاً كثيرة.
فماذا الذي تغيّر؟
يستمر “الكباش” في فرنسا حول قانون التقاعد بين السطلة والنقابات. بالأمس كان اليوم العاشر للتظاهرات. كالعادة، التظاهرة الأكبر كانت في باريس. تظاهرات أخرى انطلقت في مختلف المدن الفرنسيّة
ربح وخسارة
حكومة إليزابيت بورن مرّت بـ “قطوع” حسّاس الأسبوع الفائت. تمايلت ولم تسقط. لكنّها خرجت ضعيفة ومنهكة. مشروع سحب الثقة المقدّم من “التجمّع الوطنيّ” (اليمين المتطرّف) لم يحصل إلا على 94 صوتاً (من أصل 577 مجموع عدد النواب). بيد أنّ المشروع الثاني المقدّم من كتلة “ليوت” التي تضمّ 20 نائباً، حصل على 287، وهو ما يشكّل تهديداً للغالبية النسبيّة التي يتمتّع بها حكم إيمانويل ماكرون.
خطوة الحكومة دستوريّة. لجوؤها إلى القانون 49 من المادة 3 من الدستور (49.3) مبرّر استناداً إلى ما يقوله ميشال ديبريه أحد واضعي دستور الجمهورية الخامسة. فهو قال إنّ القانون وُضع بسبب بطء اتّخاذ القرارات في الجمهوريّة الرابعة. وبالفعل النقاشات حول قانون التقاعد الجديد استمرّت أشهراً. وكان من الضروري إقراره بعد إدخال تعديلات عليه، أبرزها التراجع عن سنّ التقاعد من 65 إلى 64.
على الرغم من ذلك، ينمّ اللجوء إلى 49.3 عن ضعف سياسيّ. فالحكومة عجزت عن تأمين الغالبية لقانونها في “الجمعية الوطنيّة”. وهذا ما ظهر في المرّات الـ85 التي لجأت فيها حكومات فرنسية من قبل إلى الـ49.3 منذ قيام الجمهورية الخامسة (1958).
أسباب إصرار ماكرون على القانون
“قطوع” حكومة إليزابيت بورن وضع حكم إيمانويل ماكرون في مأزق. على الرغم من علمه المسبق بحجم الاعتراض الشعبي والسياسي، أصرّ الرئيس الفرنسي على إقرار القانون.
لكن لماذا؟
يجيب البعض بأنّه يريد تحقيق إنجاز عجز عنه أسلافه منذ عقود. ربّما هذا صحيح. لكن أبعد من ذلك هناك أسباب وطنيّة أصبحت ملحّة تُبرزها التقارير والدراسات بالأرقام. وهذه أهمّها:
1- حسب تقرير “مجلس التوجيه للتقاعد”، سيقع نظام التقاعد الفرنسي في عجز ابتداء من عام 2023، على الرغم من تحقيقه أرباحاً عامَي 2021 و2022. النظام الجديد للتقاعد سيضع حدّاً لهذا العجز. سيؤمّن في عام 2030 وفراً يبلغ حوالي 18 مليار يورو يمكن للحكومة استعماله في قطاعات أخرى، أبرزها الرعاية الصحّيّة والتعليم. وهذا ما عبّر عنه بوضوح وزيرا المالية والعمل. فصندوق الرعاية الصحيّة في عجز مزمن بلغ 17.8 مليار يورو في 2022. أمّا كلفة التعليم السنويّة فقد بلغت 160.5 مليار يورو في 2019، أي 6.6% من الدخل القومي.
2- السعي إلى تخفيض الدين العام البالغ 3,000 مليار يورو في 2022، أي 113% من الدخل القومي الفرنسيّ.
3- الزيادة في متوسّط العمر. فقد زاد متوسط العمر لدى الفرنسيين 15 عاماً منذ عام 1950 حتىّ اليوم. لذلك قال وزير العمل أوليفيه دوسو: “اليوم نعيش أكثر، بالتالي علينا العمل فترة أطول”.
4- توصية الاتحاد الأوروبيّ الذي دعم فرنسا بـ40 مليار يورو لمساعدتها في إعادة إطلاق العجلة الاقتصادية بعد جائحة كورونا.
إقرار الحكومة قانون التقاعد باللجوء إلى الـ49.3 وفشل المعارضة في إسقاطها في “الجمعية الوطنيّة” لا يعنيان نهاية أزمة. على العكس، الأزمة مستمرّة ومفتوحة على العديد من الاحتمالات
صراع بين مفهومين
بعيداً من هذه الأسباب، برز في الشارع الفرنسي، في خضمّ النقاشات حول نظام التقاعد الجديد، صراع بين مفهومين اقتصاديَّين – اجتماعيَّين: الاشتراكية والليبرالية (ولا نقول النيوليبرالية أو الليبرالية المحدّثة الأميركيّة). وفي حوار جمعني بناشطين في التظاهرات المعترِضة على قانون التقاعد الجديد، تردّدت جملة أساسيّة: “يمكن للدولة زيادة مداخيلها بفرض ضرائب على رؤوس الأموال وعلى الثروات”.
في قلب النظام الاقتصادي الليبرالي الحرّ، الاشتراكيّة حاضرة بقوّة في المجتمع الفرنسيّ. أبرز تجلّياتها نظام الرعاية الصحيّة، ونظام التعليم (المدرسي والجامعي). فالدولة تؤمّن 65% من الرعاية الصحيّة ليس فقط لعموم الفرنسيين، إنّما للمقيمين على الأراضي الفرنسيّة (طلّاباً كانوا أو عمّالاً) أيضاً. والتعليم مجّاني ليس في صفوف الحضانة والمرحلة المتوسّطة، إنّما أيضاً في الثانويات وفي الجامعات العريقة. ويمكن لأيّ طالب أجنبي أن يستفيد من نظام التعليم المجّاني.
ماكرون في أزمة سياسيّة
إقرار الحكومة قانون التقاعد باللجوء إلى الـ49.3 وفشل المعارضة في إسقاطها في “الجمعية الوطنيّة” لا يعنيان نهاية أزمة. على العكس، الأزمة مستمرّة ومفتوحة على العديد من الاحتمالات:
– شعبياً، الاحتجاجات المتمثّلة في الإضرابات والتظاهرات مستمرّة.
– سياسياً، المعارضة مستمرّة في مواجهتها. وقد نجحت في تحويل الأزمة من اجتماعيّة إلى سياسيّة. فقد اعتبرت أنّ استعمال الـ49.3 تقويض للديمقراطية. وهي تلوّح باللجوء إلى “المجلس الدستوري” لإبطال القانون. كما تلوّح باللجوء إلى الاستفتاء الشعبي حول القانون. لكنّ هذا يتطلّب الحصول على توقيع 185 من أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس العموم (البالغ عددهم 925)، وتوقيع 4.87 ملايين من المواطنين، خلال مهلة تسعة أشهر.
إقرأ أيضاً: الراديكالية المسيحية.. خارج التوقيت العالمي
في الديموقراطيات العريقة الكلّ محكوم بالحوار. الأزمة اليوم في فرنسا توقّف الحوار بين السلطة والنقابات بعد فترة طويلة من النقاشات حول قانون التقاعد. لكن بعدما كشف كل من الحكومة والنقابات عن أوراقهما، وبعد أن وضَع كل من الطرفين خصمه في وضع حرج لا بد من العودة إلى طاولة الحوار.
السؤال هو: متى؟
الأرجح قريباً. لكنّه سيكون حواراً في قاعات القصور الفرنسيّة التاريخيّة على وقع صرخات المتظاهرين في الشوارع القديمة.