قال لي أحد المطّلعين على التطوّرات المستجدّة في أوساط المسيحيين: لو أنّ نبيه برّي ونجيب ميقاتي اجتمعا من أجل تخفيض أسعار الدولار إلى خمسة عشر ألف ليرة لبنانية في مقابل الدولار الواحد، لكانت ردّة الفعل لدى المسيحيين بنفس الحدّة ومثل ردّة فعلهم على تثبيت الساعة على وقع شهر رمضان.
ينظر المسيحيون اللبنانيون إلى التوافق بين الرئيسين برّي وميقاتي باعتباره من تداعيات الاتفاق السعودي- الإيراني. ينظرون إليه باعتباره لقاءً بين السُّنّة والشيعة في لبنان والمنطقة لا أكثر ولا أقلّ. وبحسب هذه النظرة أو النظرية إذا عاد الشيعة والسنّة للاجتماع وتطلُّب التوافق فمعنى ذلك ضياع المسيحيين اللبنانيين أوّلاً، والأقليّات في المنطقة بشكلٍ عامّ. وهم يتذكّرون في هذا المعرض أنّه لمّا اجتمع السعوديون والسوريون في أواخر ثمانينيات القرن الماضي حصل اتفاق الطائف، الذي أخّر المسيحيين درجات إلى الوراء، سواء ضمن النظام أو في العلاقات العربية والدولية. وقد بلغ هذا الاتفاق آفاقه القصوى في حياة رفيق الحريري، وحياة حافظ الأسد.
ينظر المسيحيون اللبنانيون إلى التوافق بين الرئيسين برّي وميقاتي باعتباره من تداعيات الاتفاق السعودي- الإيراني. ينظرون إليه باعتباره لقاءً بين السُّنّة والشيعة في لبنان والمنطقة لا أكثر ولا أقلّ
ثمّ حصلت المستجدّات الإقليمية والدولية بدءاً من وفاة حافظ الأسد، ثمّ حصول الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة عام 2001، ثمّ قتل رفيق الحريري عام 2005، وتلا ذلك تحالف الجنرال ميشال عون مع الأمين العام للحزب في كنيسة مار مخايل عام 2006. خلال هذا الوقت هجمت الولايات المتحدة على العرب والسُّنّة، واحتلّت أفغانستان والعراق، واتّجه الإيرانيون للغلبة بعد طول انتظار في كلٍّ من العراق ولبنان وسورية واليمن. وظلّ كثيرون يأملون عودة توافق الـ س+س، مع أنّ أمد التوافق انتهى عام 2006 في تحالف عون – نصر الله. ومنذ ذلك الحين صارت الأيديولوجية السائدة اتّجاه الراديكاليّتين المتحالفتين (الشيعة والمسيحيون) إلى استرداد “حقوق” المسيحيين من السُّنّة، و”حقوق” الشيعة التاريخية في كلتا المنطقتين العربية والإسلامية، ومن ضمنهما بالطبع لبنان، حيث صار للشيعة جيشٌ مسلَّح يريد تحرير فلسطين من دون العرب الذين سالموا إسرائيل، ولهم شركاء في “التحرير” هذا في العراق وسورية.. ولبنان وغزّة.
“كوارث” العصب المسيحي
كنّا نعجب طوال أكثر من عقد لهذا العصب المسيحي القوي من وراء الجنرال عون. أمّا عون فقد كان معتبراً نفسه صاحب الحقّ، إذ لا بقاء سياسياً وديمغرافياً مع الأكثرية العربية والسنّيّة. باعتبار أنّ الحزب المسلَّح يحمي الأقلّيات، والعونيين يتصدّون لإسقاط الطائف واستعادة السلطة بحسب النظام القديم، تحت سقف الحزب وإيران. وتحت وطأة هذه العصبيّة الطائفية والاستراتيجية تفكّك تحالف 14 آذار وثورة الأرز، وعاد الدكتور سمير جعجع إلى التحالف مع عون لايصاله إلى رئاسة الجمهورية. وقلْب فكرة التحالف المسيحي الشامل هو المشروع الأرثوذكسي الذي يمضي عبر تغيير نظام الانتخابات باتجاه الفدرالية الطائفية ضمن الكيان اللبناني المنقسم على ذاته.
لا داعي لاستعادة الأحداث الفاجعة فيما بين انتخاب عون رئيساً عام 2016 ونهاية عهده عام 2022. فقد ازداد الحزب قوّةً بالتدخّل العسكري في سورية منذ عام 2012 حتى الآن، وانصرف التيار العوني إلى تكسير النظام الذي أقامه الطائف، وفي أثناء الاستعجال في بلوغ ذلك تكسّر النظام اللبناني كلّه، وحصلت الفرقة بين العونيين والقوات والكتائب والشبّان المسيحيين بسبب الصراعات على المناصب والوظائف والسياسات… حتى حدث ثوران 2019 نتيجةً لانهيار الدولة، ثمّ انفجار المرفأ 2020. فبلغت العونية ذروة تأزّمها لدى المسيحيين. بينما كان الحزب المسلّح يزداد إبهاراً حتى مقتل الجنرال قاسم سليماني على أيدي الأميركيين عام 2021، وهو قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، والمفوّض الإيراني في شؤون المنطقة.
يرى المراقبون أنّ أهمّ التطوّرات السياسية بعد الفراغ في منصب الرئاسة هو تصدّع تحالف مار مخايل بين التيار الوطني الحرّ والحزب المسلّح المستمرّ منذ عام 2006
وفي حين ما يزال الحزب المسلَّح غائصاً في المستنقع السوري الذي تتصارع إيران عليه مع إسرائيل، افترقت “كلمة” العصبيّة المسيحية الثأرية على رئاسة الجمهورية وما تزال.
باسيل يتحيّن اللحظة
يرى المراقبون أنّ أهمّ التطوّرات السياسية بعد الفراغ في منصب الرئاسة هو تصدّع تحالف مار مخايل بين التيار الوطني الحرّ والحزب المسلّح المستمرّ منذ عام 2006. فالثنائي الشيعي رشّح سليمان فرنجية للرئاسة، وحجّته في ذلك أنّه يأمن جانبه لجهة عدم طعن “المقاومة” في الظهر. بينما يعارض السواد الأعظم من السياسيين المسيحيين سليمان فرنجية لجهة أنّه جزء من النظام السائد، وأنّه غير سيادي، من دون أن يستطيع المسيحيون الإجماع على مرشّحٍ بديل.
طوال الشهور الماضية انهمك جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحرّ في جدالاتٍ مع الثنائي الشيعي حول إنجازات المرحلة الماضية، وحول صلاحيّته عمليّاً للترشّح للرئاسة، ومخاصمة فرنجية وقائد الجيش صاحب الحظوظ في الرئاسة. تكتيك باسيل هو إسقاط سائر المرشّحين في الجدال فلا يبقى غيره. والحزب المسلّح يتجنّب الخصومة العلنية معه، لأنّ المسيحي القويّ الآخر الدكتور جعجع خصم أبديّ له.
إلى جانب خصومة السياسيين المسيحيين مع الحزب المسلّح، انصبّت هجماتهم على نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال، لأنّه يصرّ على جمع مجلس الوزراء لتصريف الشؤون “الضرورية”. بينما يرى المسيحيون أن لا ضرورة تتقدّم على انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. وخلال ذلك تزداد الليرة اللبنانية انهياراً والأحوال المعيشية سوءاً، وتتوالى التحذيرات الدولية من الانهيار الكامل والفوضى إن لم تجرِ الإصلاحات التي تؤهّل للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي.
لا يخلو المسيحيون، وفي طليعتهم الموارنة، من قلّةٍ متعقّلة. لكنّ الراديكالية الغالبة صارت كتلةً صمّاء بين التقوقع والتفجّر، وما أبعدَ الجميع عن روحيّة “الخلوة الروحية” التي يدعو إليها البطريرك من أجل الوصول إلى التوافق على رئيسٍ للجمهورية
اتفاق بكّين.. خلط الأوراق
جاء الاتفاق السعودي – الإيراني مفاجئاً للجميع حتى الأمين العام للحزب. ما تعوَّد نصر الله بعد على التلاؤم الذي قد يكون ضرورياً إذا مضى الاتفاق قُدُماً. بيد أنّ الأعمق تأثّراً كان المسيحيون الذين يرون أنفسهم مكشوفين، إذ ما عاد هناك تفاهم متبادل بينهم وبين الحزب، وأصبحت علاقاتهم العربية هشّة، ويتحدّثون مع الفرنسيين والأميركيين. لكنّ الآراء مختلفة، والمرشّحون للرئاسة يزدادون كلّ يومٍ عدداً وعُدّة.
جاء التثبيت الرمضاني للتوقيت باتفاقٍ بين برّي وميقاتي ليكشف “العقدة” المسيحية بأبعادها الكاملة. فقد نالت الاتّهامات المسيحية، من البطريرك إلى إنسان الشارع، من الاتفاق البرّيّ – الميقاتيّ ولو أنّه تمّ على أمر بسيط كهذا. وجرى وصفه بأنّه دليلٌ على العصبية الإسلامية الشيعية – السنّية، وأنّه دليلٌ على التخلّف عن المسار العالمي، وأنّه إبعادٌ لكلّ المسيحيين عن “القرار”. حتى قيل إنّ الأجدر بالمسيحيين الذهاب نحو الفدرالية والانفصال. لقد أجمع على ذلك البطريرك والأحزاب المسيحية الثلاثة: الكتائب والقوات والتيار العوني، ثمّ التغييريون الأشاوس.
لا شكّ أنّ خطوة ميقاتي ما كانت ضرورية. لكنّها أيضاً لا تستدعي هذا الثوران الطائفي المسيحي.
أذكر أنّه عندما كان تمّام سلام رئيساً للحكومة بين 2014 و2016، وهي الفترة التي خلت فيها سُدّة رئاسة الجمهورية، كانت الاتّهامات القصوى ضدّ تمام سلام بأنّه يريد الانفراد بالسلطة دون رئيس، وأمّا الآن فإنّ الجميع يُثنون على رئاسة تمام سلام آنذاك، ومشكلتهم مع ميقاتي أنّه متوافق مع نبيه برّي، وربّما مع حزب الله بدليل قدرته على جمع مجلس الوزراء بحضور وزراء الحزب المسلّح.
كانت الميزة لدى الراديكاليات المسيحية أنّ حضورهم القوي في السلطة مرتبط بالتخاصم بين السنّة والشيعة، وأمّا الآن فإنّ التوافق بين الطائفتين الكبريَيْن مخوفٌ ومخيف، وبخاصّةٍ مع تعذّر البدائل. لقد خاصموا تحت ولاء الحزب العرب وحتى الدوليين: فأين يذهبون إذا اتّفق الثنائي الشيعي مع السنّة في لبنان، ومن وراء ذلك التوافق بين الطرفين على مستوى المنطقة تحت لواء السعودية وإيران؟!
الراديكالية المسيحية.. الصمّاء
التداعيات السياسية للاتفاق الإيراني – السعودي ما تزال في بداياتها، وهي تحتمل عدّة محطّات وتقلّبات خلال العقد المقبل. فقبل ثلاثة أيام حاول الحوثيون قتل وزير الدفاع اليمني ورئيس أركان حرب الجيش على الطريق الجديدة بين ميناء المخا وتعز. وأمّا مفاوضات تبادل الأسرى بينهما في جنيف فلم تنجح إلّا نصف نجاح. وقد بادر الحوثيون إلى منع دخول فرق الإغاثة الدولية إلى مناطقهم. ودار قتال عنيف على حواف محافظات مأرب وشبوة وتعز عندما حاول الحوثيون استعادة منطقة حريب. وهكذا لم تهدأ بعد ساحة المواجهة الرئيسية. هذا ووقعت مواجهات بين الميليشيات التابعة لإيران والقوات الأميركية في سورية. إذاً التداعيات المنتظرة مبكرة. لكنّ المراقبين يلاحظون تحسّناً هادئاً في العلاقات بين السعودية وسورية. ومن جهتهم العراقيون والأردنيون متحمّسون للاتفاق.
إقرأ أيضاً: “عقارب” الساعة.. “لدغت” حظوظ فرنجيّة
أمّا السياسيون المسيحيون في لبنان فيعتبرون أنّ مخاوفهم هي قيد التحقّق والوقوع. وهذه “العقدة” المسيحية لا يحلُّها اتّباع التوقيت العالمي، ولا انعقاد مجلس الوزراء أو عدم انعقاده. في الأزمات، سواء صغرت أو كبرت، يمضي الثنائي الشيعي في السبيل الذي يختاره. ويتفرّق أهل السُّنّة. وتتضخّم “العقدة” الأقلّويّة المسيحية وتميل للتفجّر عند أوهام التفوّق والتقدّم وهجران المتخلّفين عن الركْب الكوني، واستدعاء المظلومية. وفي الواقع لا يخالف الركْب العربي والعالمي اليوم غير الراديكاليين المسيحيين. كان اللبنانيون يتسنّمون دائماً دوراً يكون البلد طليعياً فيه. أمّا اليوم فيتغيّب المثقّفون المستنيرون، والسياسيون الكفاة، ويحضر الإعلاميون الذين يصرخون لجمع الشعبوية الطائفية التي استنهضها الجنرال عون عام 1989 وما تزال تبرز في الأزمات. مشكلة المسيحيين أنّ توقيتهم يعود إلى ما قبل الطائف 1989-1990. تصوّروا أنّه في إحدى الفضائيات اللبنانية العظيمة صوّروا ميقاتي وبرّي أنّهما بيلاطس الذي أرسل المسيح إلى الصليب ويهوذا الأسخريوطي الذي باع المسيح بدراهم معدودات. هي حرب دينية يشنّها الرجلان على مسيحيّي لبنان مثلما شنّها الرومان واليهود على المسيح نفسه، فيا للهول!
لا يخلو المسيحيون، وفي طليعتهم الموارنة، من قلّةٍ متعقّلة. لكنّ الراديكالية الغالبة صارت كتلةً صمّاء بين التقوقع والتفجّر، وما أبعدَ الجميع عن روحيّة “الخلوة الروحية” التي يدعو إليها البطريرك من أجل الوصول إلى التوافق على رئيسٍ للجمهورية.