عودة الجدل السياسي بين بغداد والنجف

مدة القراءة 6 د

كثيراً ما كان صدى الخطوات التي تقوم بها مرجعية النجف يُسمع في أرجاء العاصمة بغداد وداخل دوائر القرار السياسي والأمني، مع حرص هذه المرجعية على التعامل بحذر مع الشأن السياسي حتى لا تُتّهم أو تؤسّس لنوع من الدور السياسي للمرجعية يُخرجها عن دورها الرعائي والتوجيهي، وعلى أن لا تكون مواقفها مدخلاً إلى اتّهامها بممارسة ولاية عامّة وتامّة على الشأن السياسي بما يجعلها أو يضعها في موقع “وليّ الفقيه” أو “الولاية العامّة” على غرار المثال الإيراني الذي تختلف معه من منطلقات ومبانٍ فقهية واجتهادية حول مفهوم وحدود الولاية ودور المرجعية وحجم تدخّلها في الشأن العام.

بغداد عاصمة الصراعات
في المقابل، فإنّ بغداد بما تمثّله من صراعات سياسية مفتوحة على كلّ التوجّهات والخلفيّات الفكرية والسياسية، وتحديداً الإسلامية أو ما يمكن وصفه بقوى الإسلام السياسي، عملت على تكريس نوع من “استقلالية” القرار وأن تكون مرجعية سياسية من دون القطيعة التامّة أو الحادّة مع النجف بوصفها مرجعية دينية رعائية لا تقدّم نفسها وصيّة على العملية السياسية.
وقد ساعد في تكريس هذا التمايز أنّ قوى الإسلام السياسي، سواء الشيعية منها أو السنّيّة، لا ترى نفسها ملزمة في الرؤية أو “النصيحة السياسية” بما تراه مرجعية النجف، مع الاعتراف الكامل بالدور الأبوي والوطني الذي قامت وتقوم به هذه المرجعية في المراحل المفصلية والمصيرية من تاريخ العراق الحديث ما بعد 2003. وتبرز هنا خصوصية في هذه العلاقة بين النجف والقوى الشيعية السياسية والحزبية، التي قد تلتقي على الإطار العام والقبول بالمظلّة الدينية والتوجيهية التي توفّرها المرجعية للعراق وطناً لجميع أبنائه ولسيادته ومصلحته في التعايش بين مكوّناته المذهبية والقومية والعرقية، لكن يبدو من الصعب عليها التسليم بالتفاصيل التي تتحكّم بمستقبل العملية السياسية، لناحية حجم ودور كلّ من هذه الأحزاب في السلطة والإدارة والمحاصصة، وحتى في آليات التحالف والتخاصم والصراعات المفتوحة على كلّ القضايا التي تدخل في إطار رؤيتها السياسية والسلطوية.

أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وإن كانت تحاول عدم التصادم مع المرجعية الدينية في النجف، فهي لا ترى نفسها ملزمة أو مجبرة على الالتزام بكلّ ما يصدر عن النجف من توجّهات

الشيعية السياسية والتمايز عن النجف
تساعد الخلفيّة الدينية والإسلاموية لقوى الإسلام السياسي الشيعية في تعزيز وتكريس التمايز بينها وبين مرجعية النجف ومواقفها وبعض توجيهاتها، وهو تمايز محكوم بسقف من البراغماتية والمصلحية إلى حدّ كبير، وقد ظهر ذلك بشكل أكثر وضوحاً في آليات التعامل مع فتوى “الجهاد الكفائي” التي صدرت عن النجف عام 2014 لمواجهة تنظيم داعش الإرهابي بعد احتلاله لثلث مساحة العراق، والتي وظّفتها هذه القوى لتعزيز مواقعها داخل المعادلات السياسية والأمنية والعسكرية والشراكة في القرار الاستراتيجي للعراق من خلال تحويل هذه الفتوى المرحلية إلى غطاء دائم ومستمرّ للتشكيل العسكري الذي أنشأته تحت مسمّى الحشد الشعبي وصولاً إلى تشريعه وقوننته في البرلمان ليتحوّل إلى صنف من أصناف القوات المسلّحة يتبع لقيادة رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلّحة، على الرغم من الجدل المستمرّ في استمراريّته ودوره، خاصة مع احتفاظ أحزاب الإسلام السياسي بفصائلها وميليشياتها العسكرية الخاضعة لإمرتها، والتي تستخدمها في الضغط على العملية السياسية لتأمين مصالحها الخاصة داخلها وخوض صراع المحاصصة، بحيث تحوّلت هذه الفصائل إلى ذريعة للسلاح المتفلّت والميليشيات غير المنضوية تحت تشكيلات الحشد الشعبي لممارسة أعمالها المخالفة للقانون والنيل من هيبة وسيادة الدولة ومؤسّساتها وتهديد استقرار العراق وتعافيه.
أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وإن كانت تحاول عدم التصادم مع المرجعية الدينية في النجف، فهي لا ترى نفسها ملزمة أو مجبرة على الالتزام بكلّ ما يصدر عن النجف من توجّهات، انطلاقاً من أنّ هذه الأحزاب تملك أو لديها مرجعيّاتها الدينية الخاصة، سواء داخل العراق أو خارجه. فحزب الدعوة يرى أنّه يمتلك رؤية دينية للحكم بناء على نظرية إسلامية وأطروحة فكرية مبنيّة على التأسيس الذي وضعه السيد محمد باقر الصدر، وهو ما يعني أنّها قد تتّفق مع مرجعية النجف في مسائل وتختلف معها وعنها في أخرى. في حين أنّ التيار الصدري يمتلك مرجعيّته الخاصة المستمدّة من مرجعية السيد محمد صادق الصدر وطموحات نجله السيد مقتدى الدينية والمرجعية والسياسية التي تقترب من مفهوم “الولاية المطلقة” التي يمارسها الصدر عملياً ويعارضها كلامياً في إطار صراعه مع مرجعية الأحزاب والفصائل “الولائية” التابعة لإيران وتعتقد بمرجعية المرشد الأعلى الإيراني السيد علي خامنئي، وهي فصائل لا ترى نفسها ملزمة باتباع توجيهات النجف إذا ما كانت تتعارض مع مصالحها أو مصالح مرجعية المرشد الأعلى. ولا يخرج عن هذا السياق تيار الحكمة الذي يقوده السيد عمّار الحكيم الذي ما يزال يجهد لتقديم نموذج مدني في العمل السياسي، إلا أنّه لم يستطع الخروج حتى الآن من عباءة الإسلام السياسي والبعد الديني في التعامل مع مفهوم الدولة والسياسة.

لماذا العودة الآن؟
تأتي العودة إلى تلمّس الجدل السياسي بين بغداد والنجف في هذه المرحلة الدقيقة والحسّاسة من تاريخ العراق، بناء على الصراع المستجدّ على قانون الانتخابات الجديد. فعلى الرغم من موقف مرجعية النجف المبكر، في عام 2018، بضرورة إقرار قانون انتخابي عادل ومنصف في محاولة لتعديل موقفها القديم عام 2014 الذي دعمت فيه قائمة قوى الإسلام السياسي، فقد زادت حدّة المطالبة بهذا التعديل بعد اندلاع التظاهرات في تشرين عام 2019، وانتهت بإقرار قانون جديد على أساس الدائرة الصغرى الفردية على حساب القانون النسبي والقائمة المغلقة على أساس المحافظة.
لقد عادت مرجعية النجف إلى رفع الصوت من  أجل قانون الانتخابات الذي تسعى القوى السياسية مجتمعة إلى إقراره، أو العودة فيه إلى القانون النسبي على حساب القانون الفردي، لكن يبدو أنّ صداه لم يُسمع في بغداد، فانتقل هذا الخطاب إلى وضع حدود وشروط على القانون الجديد، ومنها أن لا يكون بناء على القائمة المغلقة والدائرة الواحدة. إلا أنّه بناء على مصالح هذه القوى السياسية وحجم الأضرار التي لحقت بها من القانون الفردي في الانتخابات المبكرة، يبدو أنّها غير مستعدّة للإصغاء لتحذيرات المرجعية أو الأخذ بها، ولا تريد التوقّف عند التداعيات التي قد تنشأ نتيجة الاعتراضات الصادرة عن التيار الصدري والقوى المدنية الرافضة لتعديل القانون والعودة الى النسبية، حتى لو أدّى ذلك إلى تفجّر الاحتجاجات أو عزوف التيار الصدري عن المشاركة.

إقرأ أيضاً: هل يستفيد العراق من الاتّفاق السعوديّ الإيرانيّ؟

تعتقد هذه القوى المنضوية تحت ائتلاف “إدارة الدولة” (القوى الشيعية والأحزاب السنّية والقيادات الكردية) أنّ القانون الجديد – القديم سيعيد إليها تمثيلها في البرلمان وسيسمح لها بالتحكّم بالآليّات المنتجة لأعضاء السلطة التشريعية، وبالتالي التخلّص من إمكانية بروز مراكز قوى داخل كلّ مكوّن، بحيث تبقى هي المتحكّمة بالعملية السياسية وإدارة الدولة ومؤسّساتها ومصالحها.

مواضيع ذات صلة

بشّار: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين!

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي. وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية. وفيما القلب على سوريا…

تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

آليّة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان تنتظر انتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني تتّفق هويّته مع بنود اتّفاق وقف النار. تستفيد إسرائيل من…

الشرع من “الإمارة الإسلاميّة” إلى “الدّولة الوسيطة”؟

عام 2014، أعلن الجولاني أنّه بصدد إقامة إمارة إسلامية في سوريا، وذلك بعد رفضه خلافة البغدادي، ومبايعته تنظيم “القاعدة”. وكانت غايته رفض قيام دولة علمانية…

كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة…