أطلقت البنوك انتفاضتها وأعلنت الإضراب الشامل وإغلاق الفروع في وجه المودعين، إلا في حدود ما تجود به أجهزة الصرّاف الآليّ.
كان من المنطقي أن ينتفض المودعون ويعلنوا الإضراب احتجاجاً على ما تفرضه عليهم البنوك من “هيركت” قاسٍ ومعاملة مذلّة على أبواب الفروع، لكن حدث العكس. فما الذي دفع البنوك إلى خطوة كهذه بعدما بدا أنّها تمسك بخيوط لعبة “الأمر الواقع”؟
الهروب من القضاء
لا شكّ أنّ الحكم الصادر ضدّ أحد البنوك الكبرى أعاد خلط أوراق البنوك مذكّراً إيّاها جميعاً بأنّ “الستاتسكو” القضائي المُرسى منذ بداية الأزمة قابلٌ للكسر، إضافة إلى استمرار مخاطر الدعاوى القضائية المرفوعة في الخارج. والشقّ الآخر الذي لا يقلّ أهمّية هو الاستدعاءات القضائية في شبهات غسل الأموال، إذ يبدو أنّ البنوك تريد منذ البداية إفراغ التعديلات على قانون السرّية المصرفية من مفعولها القضائي، بذريعة أنّ إثارة شبهات كهذه قد تؤدّي إلى إقفال حسابات البنوك اللبنانية لدى البنوك المراسلة الأجنبية!
أطلقت البنوك انتفاضتها وأعلنت الإضراب الشامل وإغلاق الفروع في وجه المودعين، إلا في حدود ما تجود به أجهزة الصرّاف الآليّ
أفرد فرمان إعلان الإضراب المصرفي العامّ خريطة الطريق التي تريدها البنوك “للخروج من الأزمة النظامية”، وسرَد سلسلة من الشروط على الدولة والقضاء لتتكرّم باستقبال مودعيها.
خريطة الطريق تتضمّن بندين تشريعيَّين بهذا الترتيب:
1- إقرار قانون الكابيتال كونترول.
2- قانون إعادة هيكلة المصارف.
لكنّ الأساس هنا أنّ جمعية المصارف ترفض الربط بين هذين القانونين، بل إنّها تعطي الأولوية القصوى لقانون الكابيتال كونترول، لتنتهي من أيّ صداع قضائي في الداخل أو في الخارج. لكن تبقى أمامها مشكلة أخرى، وهي أنّ الصيغة التي طرّزها نائب رئيس مجلس النواب الياس أبو صعب لحدود السحب من الودائع (800 دولار شهرياً حدّاً أدنى بقيمتها الحقيقية)، لم تعجب البنوك، وهي تطالب بالاستمرار بالتعميم 158، لأنّه يلقي بعبء توفير الدولارات على مصرف لبنان، ويفرض نسبة هيركت مرتفعة على الشقّ الذي يسدَّد بالليرة.
رفض خطة الصندوق الدولي
اللافت أنّ بيان جمعيّة المصارف، بنقاطه الستّ، لا يأتي على ذكر صندوق النقد الدولي من قريب أو بعيد. وهذا ينسجم مع الهجوم على الصندوق الذي تدأب عليه الأصوات القريبة من البنوك منذ أشهر. وهذا يؤكّد مجدّداً أنّ البنوك لا تريد الشروع في ورشة توزيع الخسائر بمعايير صندوق النقد الدولي، بل العودة إلى صيانة قواعد “الأمر الواقع” التي تحكم علاقتها بالمودعين، مع سدّ الثغرات القضائية التي يمكن أن ينفذوا منها.
هذا هو الموضوع الأساس في إضراب البنوك. فالشرط الأول الذي وضعته جمعية المصارف لإنهائه أن يعترف القضاء بأنّ الشيك الذي يباع بعُشر قيمته، وسيلة دفع قانونية لأداء الودائع، أي أن يقبل المودع بخسارة 90% من وديعته، وأن يعطي القضاء دمغة قانونية لهذا الهيركت.
العجيب في موقف البنوك أنّها تهدّد بتطبيق القاعدة نفسها على المدينين، أي عدم القبول بتسديد القروض المصرفية إلّا نقداً وبالعملة نفسها. وهنا تكشف البنوك حقيقة الفصل المظلم الذي نفّذته عن سابق تصوّر وتصميم منذ بداية الأزمة. إذ ما الذي كان يمنع البنوك من أن تنفّذ هذا التهديد منذ بداية الأزمة؟ ألم يكن من الضروري أن تمتنع عن قبول سداد القروض الدولارية بالعملة اللبنانية على سعر الـ1,507؟ لماذا سمحت البنوك بتصفية 30 مليار دولار من التسليفات والقروض بقيمة لا تُذكر على حساب ملاءتها ومن أموال المودعين الذين باعوا الشيكات؟
يمكن إيضاح ما جرى بطريقة أخرى. موجودات البنوك تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، اثنان منها هالكا القيمة، هما محفظة سندات الدولة بالعملة الأجنبية (اليوروبوندز) ومحفظة شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان، ويبقى جزء ثالث هو الأفضل جودة، وعليه يعلَّق أيّ أمل لإعادة نسبة، ولو ضئيلة، من أموال المودعين. هذا الجزء هو محفظة قروض القطاع الخاص بالعملة الأجنبية، التي كانت تقارب 40 مليار دولار في بداية الأزمة. ما فعلته البنوك، ومن ورائها مصرف لبنان، أنّها سمحت بتبديد هذا الجزء غير الهالك من محفظة الأصول، عبر عمليات السداد المبكر بالليرة أو بالشيكات المنهوبة من أموال المودعين.
إقرأ أيضاً: سيرك 1 شباط: مطلوبات البنوك باللولار.. والموجودات بالدولار
بيان جمعية المصارف كشف لماذا سمحت البنوك بهذه التصفية: إنّها معادلة هذه بتلك. فضّلت ترك لعبة الشيكات سارية على جانبي المعادلة لتبقى مطلقة اليد في تصفية الودائع وإغلاق حساب كلّ من تسوّل له نفسه رفع دعوى قضائية.
ستظلّ هذه الخطة “أ” للبنوك إلى أن تتوافر إمكانية الوصول إلى خطة لإعادة الهيكلة توزّع الخسائر بين الدولة والمودعين، وتُخرجها بلا أضرار.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@