حلّ الموعد المنتظر لتطبيق سعر الصرف الرسمي الجديد البالغ 15 ألف ليرة في التوقيت الذي اختاره حاكم مصرف لبنان، متأخّراً أربعة أشهر عن إقرار الموازنة العامّة في مجلس النواب.
في تلك الأشهر رتّب سلامة ما يحتاج إلى ترتيبه، فرفع سعر صيرفة إلى 38 ألف ليرة، ثمّ سرّب للإعلام يوم الإثنين نيّته رفعه مجدّداً إلى 45 ألف ليرة، بعدما ترك سعر السوق الموازية يرتفع فوق ستّين ألف ليرة قبل أن يتدخّل للجمه.
حلّ الموعد المنتظر لتطبيق سعر الصرف الرسمي الجديد البالغ 15 ألف ليرة في التوقيت الذي اختاره حاكم مصرف لبنان، متأخّراً أربعة أشهر عن إقرار الموازنة العامّة في مجلس النواب
ما حاجته إلى ذلك؟
الأمر واضح. يريد سلامة أن يُبقي الهامش بين سعر السحب من البنوك (15 ألف ليرة) من جهة، وسعر صيرفة وسعر السوق الموازية من جهة أخرى، يراوح بين ثلاثة وأربعة أضعاف. وهذا ما يحدث على الأرض. سعر صيرفة وصل إلى ثلاثة أضعاف سعر السحب (الرسمي)، وسعر السوق يقارب أربعة أضعاف. والهدف أن يظلّ المودع يتحمّل “هيركات” بنسبة 75% من كلّ دولار يسحبه من حسابه، ليستمرّ مصرف لبنان بتذويب فجوته المالية الضخمة.
سبق لسلامة أن قال في مقابلة تلفزيونية بالحرف: “نحنا قادرين نلمّ كلّ الليرات ساعة اللي منقرّر”، وأردف أنّه بمليار دولار قادر على تجفيف السوق كلّه من الليرات. وقد أثبت ذلك بالفعل. فعندما وصل الدولار إلى 60 ألفاً باتت 100 مليون دولار كافية لسحب ستّة مليارات ليرة من سوق الصرّافين، ومَن يعاند من المضاربين فهناك طريقة أخرى لإقناعه تتمثّل في تدخّلٍ لطيفٍ من النيابات العامّة.
تجويع السوق للّيرة
أثبت سلامة هذه القدرة على التدخّل خلال الأسبوعين الأوّلين من كانون الثاني حين سحب من السوق 13 تريليون ليرة، فانخفضت الكتلة النقدية المتداوَلة خارج مصرف لبنان من 80 تريليوناً إلى 67 تريليوناً، فيما لم تنخفض الاحتياطات بالعملة الأجنبية بأكثر من 167 مليون دولار خلال تلك الفترة.
لم يعد حجم الكتلة النقدية بالليرة يعادل أكثر من 1.1 مليار دولار بسعر السوق الموازية، أي أقلّ من ربع ما كانت عليه بالقيمة الحقيقية قبل خريف 2019. أضف إلى ذلك أنّ مفهوم المعروض النقدي بالمفهوم الضيّق (M1) معطّل في الوضع الحالي، بفعل القيود على السحوبات من الحسابات الجارية. وبالتالي فإنّ النقد الذي يحمله الناس في بيوتهم والصرّافون في دكاكينهم لا يشكّل ضغطاً حقيقياً على سعر الصرف، بل إنّ الكتلة النقدية أقلّ بكثير ممّا تحتاج إليه الدورة التداولية للسلع والخدمات. ولا أعجب ولا أغرب من أن يتباهى حاكم المصرف المركزي بأنّ من يحتاج إلى الليرة الكاش يدفع علاوة تزيد على 20% للحصول عليها (!)، أي أنّه يعترف ضمناً بأنّه يخنق الاقتصاد، ولا يوفّر ما يكفي من النقد، من أجل أن يبقى متحكّماً بسعر الصرف من الباب الخطأ. بالطبع هي لعبة ذات أفق قصير، ولا يمكن أن تستمرّ إلّا إذا بقيت رواتب القطاعين العام والخاص مسحوقة بما يكفي لعدم طبع نقود إضافية.
مطلوبات البنك ستصبح مقوَّمة على سعر الصرف الرسمي الجديد (15,000 ليرة)، فيما الموجودات العقارية وجزء من الموجودات الخارجية ستكون مقوَّمة بسعر صرف آخر يعادل ثلاثة أضعاف ذلك السعر
غسل الخسائر
ليس هذا السيرك شيئاً أمام “غسل” خسائر دفاتر البنوك في عصر ما بعد 1 شباط، من خلال التعميم الوسيط رقم 659. تكمن خطورة هذا التعميم في أنّه يرسم خريطة طريق لتصفية الأزمة بقوّة الأمر الواقع، على حساب المودعين، مع إيجاد وسائل جديدة للاستمرار في إخضاع الودائع لعمليّات “هيركات”، من دون أن تظهر في ميزانيّات البنوك. فمن جهة، يسمح التعميم للمصارف بتصفية مراكز القطع المدينة المفتوحة بالتدرّج على مدى خمس سنوات لمواجهة الانفجار في تقويم المطلوبات بالعملة الصعبة عندما تُضرب بعشرة. فالودائع بالعملة الأجنبية تقارب حالياً 96 مليار دولار، أي نحو 140 ألف مليار ليرة بسعر الصرف البائد (1,507)، وستصبح بعد رفع سعر الصرف الرسمي 1.14 تريليون ليرة، أي أنّها ستُقوَّم “باللولار” بسعر يعادل ربع سعر السوق. وفي الجهة الأخرى من الميزانية، يشرعن مصرف لبنان من خلال التعميم نفسه نفخ قيمة الموجودات من خلال اعتماد سعر “صيرفة” لإعادة تخمين الموجودات العقارية، والتسليفات الطويلة الأجل المرتبطة بمشاركات في مصارف ومؤسّسات ماليّة في الخارج.
مساعدة البنوك
يعني هذا أنّ مطلوبات البنك ستصبح مقوَّمة على سعر الصرف الرسمي الجديد (15,000 ليرة)، فيما الموجودات العقارية وجزء من الموجودات الخارجية ستكون مقوَّمة بسعر صرف آخر يعادل ثلاثة أضعاف ذلك السعر. وهكذا يعطي مصرف لبنان للبنوك غطاء قانونياً للاستمرار في حالة “الزومبي”، أي في حالة الإفلاس التقني غير المعلن، لمهلة تكفيها لتصفية ما أمكن من الودائع.
والسؤال هنا: إذا كان سعر صيرفة صالحاً لتقويم الموجودات العقارية والمشاركات في المصارف الخارجية، فلماذا لا يكون صالحاً لتقويم المطلوبات، أي الودائع؟
إقرأ أيضاً: “المركزيّ” يشتري المليار دولار بـ27 مليوناً.. “يا بلاش”
هل رأى خبراء صندوق النقد الدولي سابقة كهذه على كوكب الأرض من قبل؟ هل وافقت لجنة الرقابة على المصارف على هذه الفضيحة؟ هل سيوقّع مدقّقو الحسابات الخارجيون على ميزانيّات معدّة بهذه البدعة؟ هل تعلم حكومة تصريف الأعمال أنّ مصرف لبنان مضى في خطّته لتصفية الأزمة من دون أن ينتظر أحداً؟ وأخيراً، ما الحاجة إلى رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب إذا كان في مصرف لبنان حاكم قادر على نسف السلطات كلّها بتعميم واحد؟