لا شيخ صلح ولا “أرانب تسوية” ولا مرجع أعلى يُمكِنهم اليوم أن يفكّوا الاشتباك القضائي-القضائي بين المحقّق العدلي والنائب العامّ التمّييزي في ملفّ تحقيقات مرفأ بيروت. حتّى بيان نواب المعارضة المُطالِب بـ”محاسبة القاضي غسان عويدات” لن يقود إلى فتح ثغرة في مجرى التحقيق الذي وُضِع مجدّداً في الثلّاجة بفعل حرب الدعاوى بين مدّعي عام التمييز والقاضي طارق البيطار وتداعياتها التي لن تنتهي بسهولة.
عند هذا الحدّ تُصبح “مُهِمّة” نواب المعارضة المتمثّلة في تصويب مسار التحقيق مدعاةَ سخريةٍ لا لشيء إلا لأنّ “الطاقم التغييري” حين قرّر الانتفاضة لجأ أوّلاً إلى وزير العدل، ممثّل السلطة السياسية، من أجل “التدخّل” وإعادة التحقيقات القضائية إلى سكّتها، مع العلم أنّ الفريق نفسه اتّهمه سابقاً بـ “التدخّل بالتحقيق” حين سار بخيار تعيين قاضٍ رديفٍ إلى حين بتّ وضع البيطار.
مجلس القضاء الأعلى ليس حلّاً
يُسلّم كثيرون بأنّ الحلّ لن يأتي بالتأكيد على يد مجلس القضاء الأعلى المُنقَسِم على نفسه، والذي لم يتوافق أعضاؤه حتّى الآن على موعد لجلسة بعد تطيير اجتماع يوم الخميس، وبات رئيسه طرفاً في معركة تأخذ أبعاداً أكثر خطورة مع إصرار القاضي طارق البيطار، وفق أوساطه، على إصدار قراره الظنّيّ قبل الذكرى الثالثة لانفجار 4 آب.
يؤكّد البيطار لمن يلتقيهم أنّه سيحضر إلى “العدلية” لاستئناف التحقيقات بدءاً من 6 شباط، معتبراً أنّ إجراءات عويدات بحقّه مخالفة للقوانين ولن تثنيه عن عمله
ثمّة من يشير إلى احتمال تقدُّم خيار التحقيق الدولي في ملفّ لم يعد بالإمكان فكّ خيوطه المتشابكة بعضها عن بعض، لكنّ رَصد ردّات الفعل الدولية على ما جرى في الأيام الماضية وحده يُنبئ بشبه تجاهل للقضيّة، في حين أنّ التوافق الداخلي على التحقيق الدولي غائب تماماً.
إلى ذلك يبرز سؤال: ما هو مصير القرار الظنّيّ والاستدعاءات التي حدّد البيطار مواعيدها في شهر شباط المقبل؟
يتكتّم عدد من الذين وَضَعهم البيطار على جدول الاستدعاءات عن قرار المثول أمامه، مع العلم أنّه في أيلول 2021 مثُل قائد الجيش السابق جان قهوجي أمام البيطار، وفي شهر تموز من العام نفسه مثُل أمامه مدير المخابرات الأسبق كميل ضاهر وضابط المخابرات جودت عويدات كمدّعى عليهم، وتَرَكَهم رهن التحقيق.
المؤكّد حتى الآن أنّ العدد الأكبر من المدّعى عليهم اتّخذ القرار سلفاً بعدم الاستجابة لطلبات البيطار، وذلك قبل وصول الأمور إلى حدّها حين ادّعى القاضي عويدات على البيطار وأصدر قراراً بمنعه من السفر وطَلَب من رئيس وموظّفي “النيابة العامّة” عدم تسلّم أيّ تبليغ أو مذكّرة أو استنابة منه.
البيطار قاضٍ منتحل صفة؟
أمّا بعد “زلزال العدلية” الذي أحدثه البيطار ثمّ المواجهة المباشرة بين عويدات وبين رئيس مجلس القضاء الأعلى والبيطار، فيجزم مصدر قضائي مطّلع أنّ “الاستدعاءات فقدت كلّ قيمة قانونية وكأنّها لم تكن، وبالأساس صدرت عن قاضٍ منتحل صفة وفي ظلّ واقع استثنائي لم يعد فيه مكان للقانون والمنطق”.
في المقابل، يؤكّد البيطار لمن يلتقيهم أنّه سيحضر إلى “العدلية” لاستئناف التحقيقات بدءاً من 6 شباط، معتبراً أنّ “إجراءات عويدات بحقّه مخالفة للقوانين ولن تثنيه عن عمله”.
ويرى المصدر أنّ الأهمّ هو أنّ “القرار الظنّيّ الذي يحتاج إلى إجراء مطالعة بالأساس وإبداء الرأي من قبل مدّعي عام التمييز قبل صدوره وإحالته إلى المجلس العدلي لن تكون له ركيزة قانونية”، مشيراً إلى أنّ “البيطار خالف القانون حين استمرّ في صياغة القرار الظنّي بناء على التحقيقات التي كانت بين يديه وهو في وضعيّة كفّ اليد”.
تفيد المعلومات أنّ طلب الاستماع إلى هؤلاء القضاة وصل إلى مكاتبهم في العدلية عبر مجلس القضاء الأعلى
يتوقّع المصدر نفسه سيطرة الجمود الكامل على الملفّ، وربّما لفترة طويلة، للأسباب التالية:
ـ ادّعاء البيطار وعويدات أحدهما على الآخر.
ـ عدم إمكانية استماع المحقّق العدلي إلى أيّ من المدّعى عليهم “وعدم قدرته على إصدار مذكّرات توقيف بحقّهم، إضافة إلى حلّ أزمة الموقوفين في الملفّ بعد إخلاء سبيلهم جميعاً، وهي التي كانت تشكّل العبء الأكبر في الملف”.
وفق المعلومات، فإنّ النائب غازي زعيتر ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق ورئيس الحكومة السابق حسان دياب واللواء عباس إبراهيم واللواء طوني صليبا ورئيس المجلس الأعلى للجمارك أسعد الطفيلي وكلّ القضاة المشمولين بالادّعاء، بينهم غسان عويدات، لن يكونوا مَعنيّين بالمثول أمام البيطار “المدّعى عليه” والمعزول من منصب المحقّق العدلي.
في هذا الإطار تتوقّف مصادر مطّلعة عند أمرين أساسيّين:
ـ الأول: هناك نصّ قانوني صريح يحصر الادّعاء على كلّ القضاة بمدّعي عام التمييز فقط، إذ لا يجوز أن يطال القاضي أيّ جنحة أو جناية إلا من قبل المدّعي العامّ شخصياً ولا ينوب عنه حتى المحامي العام التمييزي.
ثمّة قضاة لا يزالون يحاولون فكّ لغز ادّعاء البيطار على قاضيَين أعلى منه هما غسان عويدات والمحامي العام التمييزي غسان خوري وطلبه الاستماع إليهما، قائلين “هذه هرطقة ما بعدها هرطقة”.
في هذا السياق تفيد المعلومات أنّ طلب الاستماع إلى هؤلاء القضاة وصل إلى مكاتبهم في العدلية عبر مجلس القضاء الأعلى.
ـ الثاني: لا تزال العدلية تضجّ باجتهاد البيطار في “عدم إمكانية ردّ المحقّق العدلي” في ظلّ عدم وجود نصّ صريح، كما جاء في دراسة البيطار، بردّ المحقّق العدلي أو طلب نقل الملفّ منه.
لكن في هذه الحال يمكن العودة، برأي مصدر قضائي، إلى موادّ قانون أصول المحاكمات المدنية التي تتيح ردّ القضاة والتي لم تستثنِ المحقّق العدلي منه، إضافة إلى أنّ الأسباب الموجبة التي أوردها البيطار لتأكيد عدم إمكانية ردّ المحقّق العدلي المعيَّن بقرار وزير العدل تنطبق أيضاً على كلّ القضاة المعيّنين بقرار إداري (مرسوم)، إذاً هل يمكن القول إنّه لا يمكن ردّ أيّ قاضٍ؟ ولنفترض أنّ أحد أقارب البيطار كان من ضمن ضحايا المرفأ أليس طلب ردّه أمراً مشروعاً وبديهياً تماماً كما قدّم طلب دعوى ردّ القاضي فادي صوّان بعد تضرّر منزله بالانفجار واستفادته من تعويض مادّي.
إقرأ أيضاً: هزّة قضائيّة بأبعاد رئاسيّة
يتساءل المصدر: “ما موقف البيطار من هيئة محكمة التمييز، أعلى سلطة قضائية، التي قَبِلت سابقاً بتّ دعاوى ردّ وتنحية البيطار؟ ألا يعني ذلك تسليمَ الهيئة بإمكانية تقديم دعوى ردّ ومخاصمة الدولة بحقّ المحقّق العدلي أمامها بغضّ النظر عن شروط قبولها؟”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: MalakAkil@