أشعل إعلان المحقّق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت عودته لمتابعة التحقيقات المتوقّفة منذ 13 شهراً، البلاد طولاً وعرضاً، وعلى المستويات كافّة، فيما أحوال الجمهورية اللبنانية تتأرجح اليوم بين أزمة سياسية حادّة أوصلت الدولة إلى الفراغ، وأزمة اقتصادية أوصلت المواطنين إلى “جهنّم”، وحوادث أمنيّة متفرّقة تنذر بالكثير، وتضعضع اجتماعي يظهر بين الفينة والفينة على شكل حوادث لم تعد عابرة. فهل يكون إشعال القضاء، والقضاء عليه، باب الحلول على الصعد كافّة؟ “إذا ما كبرت ما بتصغر”، مَثَل لبناني يجري على الألسنة كلّها، ويبدو أنّه سيصبح القاعدة الأساسية التي تتحكّم بالبلاد والعباد. فهل يكون القضاء، من التحقيق في جريمة المرفأ إلى التحقيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أداةً لتفجير البلد أمنيّاً كما رشح عن مصادر أميركية غير مرّة، أم أداةً لحلحلة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية… والقضائية؟
تنصّل أميركيّ
بأيّ عين سيقابل رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات بعد الذي جرى؟
يتّهم القاضي عويدات، ضمناً، القاضي عبّود، بتحريض المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار، والوقوف خلف الفتوى القانونية التي ابتدعها البيطار لنفسه، والتي تخوّله إعادة وضع يده على ملفّ التحقيق في جريمة المرفأ.
فجّر ملفّ المرفأ السلطة القضائية في لبنان، التي أصبحت عاجزةً عن أن تحسم ملفّات بحجم قضية المرفأ أو بحجم حماية حقوق المودعين، وتبيّن أنّها تنقسم على إيقاع دولي. فما الذي حصل حتى وجد البيطار مخرجاً له حرّره من كلّ الدعاوى المقامة بحقّه ومن كفّ اليد الذي التزم به على مدى 13 شهراً.
يتّهم القاضي عويدات، ضمناً، القاضي عبّود، بتحريض المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار، والوقوف خلف الفتوى القانونية التي ابتدعها البيطار لنفسه
المتّهم الأوّل في التطوّرات الدراماتيكية التي شهدها قصر العدل، هم الفرنسيون والألمان على وجه التحديد، فيما تنحّى الأميركيون جانباً بعدما أُطلق سراح الموقوف الذي يحمل الجنسية الأميركية مع بقيّة الموقوفين. اكتفت وزارة الخارجية الأميركية بحثّ السلطات اللبنانية على استكمال تحقيق سريع وشفّاف في انفجار مرفأ بيروت، فيما كانت سفيرتها في لبنان دوروثي شيا تتنصّل من أيّ مسؤولية وتكتفي بالتوضيح في مجلس خاص بأنّ كلّ ما فعلته هو أنّها طالبت بإطلاق سراح الموقوفين فقط.
العقل المدبّر
في تفسير الخلفيّات، ثمّة من يربط الهدف الفرنسي بفرض ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، وهو ما دفع مسؤولاً أمنيّاً إلى التعبير عن سخطه بالقول: “فليتحمّل الفرنسيون ما سيلحق بالبلد من جرّاء تعاطيهم”. ويأتي في سرد وقائع ما شهدته الساعات الماضية أنّ القضاة الفرنسيين طلبوا خلال زيارتهم للبنان من البيطار استئناف التحقيق في ملفّ انفجار المرفأ. وقد فُسّر ذلك بأنّه محاولة لجرّ البلد نحو التوتّر والوصول إلى لحظة مفصليّة للمطالبة بقوات دولية أو تدخّل خارجي في لبنان.
وتتحدّث جهات سياسية بارزة عن وجود عقل مدبّر في الداخل اللبناني، وتحديداً رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي أوجد المخرج بتنسيق مع قوى خارجية فرنسية. إذاً القضاء اللبناني اليوم ليس مسيّساً في الداخل فحسب، بل أداة من أدوات السياسة الخارجية، أي أنّ الخارج استعمل السلطة القضائية حتى بات القضاء أمام مشهد مخزٍ بكلّ تفاصيله، ويمكن وصفه بانقلاب البيطار وبانقلاب عويدات على البيطار. ويكفي تبادلهما البيانات والاتّهامات، وأن يقرّر محقّق عدليّ الادّعاء على مدّعي عامّ التمييز، فيعفيه الأخير من مهامّه مستنجداً بالتوراة والإنجيل، ليُقال إنّ العدل ليست له أيّ صفة .
وما جرى يعطي كلّ أنصار التدويل القضائي حجّةً قويّةً، وهي أنّ القضاء عاجز عن معالجة أيّ ملفّ. فهل كان المقصود من كلّ ما جرى أن نصل إلى ما وصلنا إليه؟ وهل من الصدفة أن تتزامن تحقيقات القضاة الأوروبيين وطلب القاضي الفرنسي من البيطار صراحةً فتح ملفّات دعوى المرفأ في وقت أتى هو فيه من أجل ملفّ ماليّ متعلّق بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة؟
إلى الفوضى درْ؟
بالتحليل، يمكن أن يكون هدف الفرنسيين فرض قائد الجيش لرئاسة الجمهورية. أمّا في الوقائع فالموضوع لن يكون بالسهولة التي يتصوّرها الفرنسيون أنفسهم. في المقابل قد يكون ثمّة من يرغب في اقتناص اللحظة المصيرية لفرض مرشّحه أيضاً، وفي هذا السياق أدرج البعض حديث النائب علي حسن خليل عن انتخاب مرشّح الثنائي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية بـ65 صوتاً، وهو ما فُسّر بأنّه استفزاز للمسيحيّين، ودفع البطريرك الراعي إلى التعبير عن “استيائه من الكربجة التي تعتري الملف الرئاسي، وسببها تمسّك فريق بترشيح فرنجية وفريق آخر بترشيح ميشال معوّض”.
لكنّ نائب الثنائي الشيعي أوضح أنّ سياق كلامه لم يكن وفق ما تناقلته وسائل الإعلام، وأنّه لم يتحدّث عن انتخاب من دون الكتلتين المسيحيّتين، وفق ما نقل مقرّبون منه. إلا أنّ التوضيح لم يثنِ البعض عن منحه أبعاداً انطلاقاً من معلومات تقول إنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي كان يسعى إلى إقناع رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط بانتخاب فرنجية لولا أن استبقه جنبلاط بإعلان رفضه انتخاب رئيس ضدّ إرادة الكتلتين المسيحيّتين.
منذ البداية، لاحظ الثنائي الشيعي وجود مسار قضائي متعلّق بقضية المرفأ سوف يأخذ البلد إلى مزيد من التأزّم والانقسام. كانت كلّ تصرّفات البيطار مثار ريبة ومدعاةً للقلق وتحوم حولها علامات استفهام. لا يمكن فصل عودة البيطار المستجدّة عن سياق ما يحيطها، بدءاً بكلام مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف، قبل شهرين، عن أنّ لبنان يجب أن يذهب إلى الفوضى ويتأزّم الوضع في الشارع حتى يتمّ الضغط على حزب الله. لقد سبق أن نبّهت إلى أنّ “الوضع في لبنان قد يزداد سوءاً، مع فراغ غير مسبوق في السلطة”. ولا يمكن فصل عودة البيطار عن مسار من الأحداث والتطوّرات كان شهدها قصر العدل منذ ما يقارب شهراً تقريباً وبدأت مع الزيارة الشهيرة للسفيرة الأميركية دوروثي شيا لكلّ من وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود وعويدات والقاضي البيطار، التي تلتها مباشرةً مواجهات بين القضاء وأهالي شهداء المرفأ على خلفيّة تهديدات أُطلقت بحقّ القضاء استدعت توقيفات وتدخّلات سياسية وتحرّكات في الشارع أُثيرت حولها علامات استفهام.
لبنان ليس بخير والقضاء ليس بخير. المشهد القضائي لا يطمئن، وكذلك تفلّت الدولار من دون أيّ تدخّل من أحد
أما زال القضاء يعمل؟
يومذاك، قيل إنّ حركة أهالي شهداء المرفأ كانت منسّقةً، وكان المطلوب تحويل قضية إطلاق الموقوفين إلى قضية رأي عامّ. بعد ذلك زار وفد قضائي أوروبي القاضي البيطار الذي سمع منه كلاماً قاسياً عن استمرار التوقيفات وضرورة استئناف العمل على الملف، وإلّا فالعيون الدولية شاخصة إلى هذا الاتجاه وسيتمّ تحريك الملفّ دولياً. ترافق كلّ ذلك مع فشل مجلس القضاء الأعلى في الاتفاق على تعيين قضاة محاكم التمييز، وتعمّد عبود عدم التئام المجلس منعاً لتعيين قاضٍ رديفٍ للمحقّق العدلي، وهو ما أدّى إلى الثورة القضائية الغربية التي وصلت إلى لبنان وتدهور الوضع القضائي بعدها مباشرةً.
عندما قصف هتلر لندن، جاء من يقول لتشرشل إنّ لندن أصبحت ركاماً. فسأله: أَوَما زال القضاء يعمل؟ قيل له: نعم، فقال: إذاً لندن بخير.
مقارنةً مع ما قاله تشرشل: أما زال القضاء يعمل في لبنان؟ الإجابة بأنّه لا يعمل تعني أنّ لبنان ليس بخير والقضاء ليس بخير. المشهد القضائي لا يطمئن، وكذلك تفلّت الدولار من دون أيّ تدخّل من أحد، وحرق الدواليب المتنقّل بين المناطق وقطع الطرق في اتجاهين مختلفين، والتأزّم في موضوع الرئاسة. تتحدّث مصادر دبلوماسية غربية عن مسار بالغ الدقّة ينذر بالأسوأ في لبنان. بحسب ما تقول، فإنّ خروج البيطار إلى حيّز الضوء مجدّداً هو خروج سياسي بامتياز، ذلك أنّ عودته لمتابعة التحقيقات ليست من بنات أفكاره، خصوصاً إذا لم يكن مدعوماً بقرار خارجي يستند إليه، وهو مدعاة تشكُّك في توقيته. وأبدت خشيتها من أن يحمل شهر شباط المقبل معه هزّات سياسيةً وماليّةً وأمنيّةً مردّها إلى الانهيار المالي والقرار القضائي المتوقّع بالادّعاء على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، واحتمال انسحاب وفد صندوق النقد المفاوض من لبنان.
إقرأ أيضاً: تسونامي يضرب القضاء: طارق البيطار في الإقامة الجبريّة
الجميع متّفقون على أنّ المطلوب هو إعداد سيناريو يوصل البلد إلى مسار مظلم، وأن تكون الغاية من الانقلاب القضائي المزيد من التأزّم. ولأنّ المتعارَف في لبنان، ربط الملفّ القضائي بالأمن، ولأنّ الأمن هو ذراع القضاء في تنفيذ الاستنابات القضائية، فهذا يعني أنّ الأوضاع تنذر بالخطورة في ظلّ انقلاب هزّ أرجاء العدلية ويبلغ مستوى انفجار المرفأ بتداعياته، إن لم يكن أكثر.