يكاد موقف الولايات المتحدة حيال مساعي تطبيع العلاقات مع النظام السوري أن يكون بليداً فيه كثير من الرتابة ويخلو من أيّ جديد. ومع ذلك يدفع ما أعلنه الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس المراقبَ وأصحابَ القرار إلى إعادة قراءة ذلك المسار الذي ترعاه موسكو ويبشّر بطيّ الصفحة القديمة بين أنقرة ودمشق.
مسارات السياسة الأميركيّة نحو سوريا
في 4 كانون الثاني خرج المتحدّث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس ليقول: “نحن لا ندعم الدول التي تعزّز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الأسد الديكتاتور الوحشيّ”. وطالب برايس دول العالم بأن تدرس بعناية سجلّ حقوق الإنسان “المروّع” لنظام الأسد على مدى السنوات الـ 12 الماضية، في الوقت الذي يواصل فيه ارتكاب فظائع ضدّ الشعب السوري ويمنع وصول مساعدات إنسانية منقذة للحياة إلى محتاجيها في المناطق الخارجة عن سيطرة قواته. ويأتي موقف واشنطن مواكباً للمسار الدبلوماسي التركي في هذا الصدد ولجهود الإمارات بنفس الاتجاه من خلال زيارة وزير الخارجية الشيخ عبد الله بن زايد الأخيرة للعاصمة السورية.
لم يتجاوز الموقف الأميركي الجديد الموقف الأميركي التقليدي القديم. ترفض الولايات المتحدة وكلّ المنظومة الغربية تعويم النظام في دمشق وتطبيع العلاقات معه قبل حصول تسوية سياسية تكون المعارضة السورية جزءاً منها. تنهل الولايات المتحدة وحلفاؤها مواقفها من قرار الأمم المتحدة رقم 2254 الصادر في 18 كانون الأول 2015 والذي يضع خارطة طريق للتسوية في سوريا ما زال تحقيقها شرطاً لتوفير التمويل الدولي لعودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
ليس اكتشافاً أنّ للحماسة التركية للتطبيع مع دمشق دوافع انتخابية بحتة تتعلّق بالاستحقاقين الرئاسي والتشريعي في حزيران 2023 في تركيا
قال الناطق باسم الخارجية الأميركية قولته هذه وعاد إلى الاستغراق في أولويات أخرى. ويظهر من بلادة “التذكير” الأميركي ورتابته أنّ واشنطن غير قلقة من أعراض ذلك التطبيع مع دمشق وتكاد تكون غير مهتمّة أساساً بثمار الوساطة الروسية حتى لو أدّت إلى قمّة تجمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس السوري بشار الأسد.
لقاءات دبلوماسيّة بين سوريا وتركيا بعد أخرى استخباريّة
والحال فإنّ أمر القمّة هو مسألة وقت. سيجتمع وزيرا خارجية سوريا وتركيا قريباً وفق تأكيدات الوزير التركي مولود جاويش أوغلو. قبل ذلك كان وزيرا الدفاع ومسؤولو المخابرات في البلدين قد اجتمعوا بضيافة وزير الدفاع الروسي في موسكو في 28 كانون الأول. ومن المتوقّع أن يتبع ذلك لاحقاً اجتماع الرئيسين وفق الآليّة التي اقترحها إردوغان قبل أسابيع على نظيره الروسي فلاديمير بوتين. أمّا متى وأين وكيف فتلك تفاصيل لم تعد ذات بال.
ليس اكتشافاً أنّ للحماسة التركية للتطبيع مع دمشق دوافع انتخابية بحتة تتعلّق بالاستحقاقين الرئاسي والتشريعي في حزيران 2023 في تركيا. وليس اكتشافاً أيضاً أنّ نظام دمشق وموسكو وطهران من خلفه غير قادرين على تلبية مطالب إردوغان في القضاء على “الإرهاب” الكردي شمال شرق سوريا وإعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم. وليس اكتشافاً أيضاً وأيضاً أنّ روسيا الغارقة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وحتى وجودياً في حربها في أوكرانيا عاجزة عن فرض تسوية ترضي تركيا والنظام وإيران وإسرائيل.
لا تملك الولايات المتحدة في سوريا إلا قوة “رمزية” قوامها حوالي 900 جندي ينتشرون شرق البلاد. ولم يُسجّل أنّ للإدارات الأميركية منذ عام 2011، تاريخ انفجار الوضع السوري، سياسة منهجية واضحة بشأن سوريا. ولطالما عبّرت إدارة باراك أوباما الديمقراطية عن عدم اكتراثها بالمسألة السورية حين آمنت بمساعي موسكو إلى إخلاء سوريا من الأسلحة الكيمياوية عام 2013 ووافقت على عدم معارضة التدخّل العسكري الروسي عام 2015. وعبّرت إدارة الجمهوريين لاحقاً عن زهد بالشأن السوري حين قرّر الرئيس دونالد ترامب عام 2018 سحب كامل القوات الأميركية من سوريا بعد اتصال هاتفي مع إردوغان من دون أن ينفّذ قراره. ومع ذلك يبقى القرار الأميركي مفتاح الربط والحلّ في شأن التسوية الكبرى في سوريا.
قد يكون عبثيّاً سعي واشنطن الدائم إلى تعطيل التطبيع العربي والدولي مع دمشق من دون خطة أميركية جدّية إمّا تعمل على الإطاحة بالنظام أو ترعى جهوداً دبلوماسية لفرض تسوية ما في هذا البلد
أميركا تمسك الملفّ السوري بالنّار
تمسك الولايات المتحدة الملفّ السوري من خلال استخدام النار للتأكّد من عدم تجاوز الخطوط الحمر. إذ سبق للقاذفات الأميركية أن ضربت تحرّكات للنظام السوري والميليشيات الإيرانية حاولت التلاعب بخطوط الميادين حول قاعدة التنف بالقرب من الحدود العراقية الأردنية، وأن أبادت في شباط 2018 في دير الزور قوّة من مئات المرتزقة التابعين لمجموعة فاغنر الروسية حين حاولت تجاوز خطوط حمر شرق الفرات. وإن كانت السياسة الأميركية لا تستند إلى قوة عسكرية متواضعة العدد ولا إلى عمليات عسكرية جراحية محدودة، لكنّها تعتمد على ترسانة قوانين العقوبات، وفي مقدّمها قانون قيصر الذي أقرّه الكونغرس في منتصف كانون الأول 2019، والذي يحرم النظام السوري من موارد مالية ويعاقبه هو والذين يجرؤون على التعامل معه.
قد يكون عبثيّاً سعي واشنطن الدائم إلى تعطيل التطبيع العربي والدولي مع دمشق من دون خطة أميركية جدّية إمّا تعمل على الإطاحة بالنظام أو ترعى جهوداً دبلوماسية لفرض تسوية ما في هذا البلد. ومع ذلك لم يفصح تحالف الصين وروسيا وإيران، الذي تقترب منه تركيا في الشأن السوري، يوماً عن قدرة سياسية على فرض تسوية ما أو قدرة مالية على إقامة برنامج لعودة اللاجئين وإعادة الإعمار. ووفق هذا الواقع تماماً لا تحتاج واشنطن إلا إلى أن يذكِّر الناطق باسم الخارجية بالممكن والمستحيل في أيّ طموحات تطبيعية جديدة مع دمشق.
مصالح أميركا أوّلاً
قد لا تنزعج واشنطن من أيّ اتفاقات ولو صوريّة قد تخرج عن الآلية الثلاثية الروسية التركية السورية. سبق لآليّات أستانا وسوتشي أن خرجت بتفاهمات لم تجهضها واشنطن ما دامت لا تمسّ حدود المصالح الأميركية ورؤاها. تدرك واشنطن أنّ جانباً من الأهداف الروسية التركية في سوريا يقوم على قاعدة تصفية حسابات مع الولايات المتحدة. يناكف بوتين أجندة واشنطن في سوريا ويعتبر ذلك مكسباً متواضعاً مقابل ما تقترفه الأسلحة الأميركية ضدّ جيشه، فيما يستمرّ إردوغان في الإيحاء بالخيار الروسي (الصيني) بديلاً عن ذلك الأميركي الأطلسي الراهن.
إقرأ أيضاً: 3 جبهات نوويّة.. ونبوءة آينشتاين
لا يحمل موقف واشنطن ترياقاً للعلّة السورية ولا يضمّد جراح البلد ويوقف مأساته. لكنّ الولايات المتحدة تعيد تظهير حقيقة أن لا حلّ في سوريا من دون التسوية ومن دون موافقة واشنطن وحلفائها. وربّما لا يضير الولايات المتحدة المظاهر التطبيعية وصور تجمع الرئيسين التركي والسوري، لكنّها في لهجة “النصح” لا الردع التي تدعو بها إلى عدم التطبيع مع دمشق، تلفت تلك المظاهر إلى الأخذ بالاعتبار الموقف الغربي الذي تقوده واشنطن والذي من دونه لا مستقبل لأيّ صفقة متعجّلة أو تجريبية. وإذا ما كانت “النصيحة بجمل” فهي استدعت رحلة سيقوم بها وزير خارجية تركيا إلى واشنطن خلال أيام.
*كاتب لبناني مقيم في لندن
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@