تنافس أميركيّ روسيّ لكسب أنقرة

مدة القراءة 8 د

قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إنّ مكان العملية العسكرية التركية المرتقبة في شمال سوريا وموعدها لن يُعلَنا إلا بعد انطلاق القوات، وإنّه طلب دعم نظيره الروسي فلاديمير بوتين وناقش معه فرص اتّخاذ خطوات مشتركة في شمال سوريا.

 

تبادل رسائل تركيّة ـ أميركيّة

ما سمّاه إردوغان نقاش الخطوات المشتركة من الممكن توصيفه أيضاً بخطّة تنسيق ثنائي جديدة متعدّدة الأهداف والجوانب في التعامل مع الملفّ السوري. وجاء التطوّر الآخر المهمّ من واشنطن بعد ساعات على تصريحات الرئيس التركي، حين أعلنت وزارة الدفاع الأميركية إعادة تفعيل عمل الدوريّات المشتركة في شمال وشرق سوريا مع “وحدات الحماية الكردية ” في سياق الحرب على ” داعش”. ما الذي يعنيه تبادل الرسائل التركية الأميركية هذا؟ ولماذا لم تحرّك أنقرة قوّاتها لتنفيذ عملية عسكرية برّيّة حتى الآن كان الحديث عنها قد عاد بعد تفجير “تقسيم” قبل شهر؟

 

فشل أنقرة في جمع موسكو وواشنطن

تقول القيادات السياسية والعسكرية التركية إنّه لا تراجع عن العملية البريّة، لكنّ حديث إردوغان عن تنسيق تركي روسي في شمال سوريا يعني أنّ القيادات التركية والروسية ما زالت مجتمعة حول الطاولة الثنائية لإيجاد المخرج الملائم من دون تحريك القوات. هل بمقدور أنقرة وموسكو صناعة مشهد سياسي أمنيّ في شمال سوريا من دون التنسيق مع واشنطن والأخذ بما تقوله وتريده هناك؟ طبعاً لا. قد تكون التفاهمات ثلاثيّة على شكل حوار ثنائي ما دامت أنقرة قد فشلت في جمع الطرفين الروسي والأميركي حول طاولة واحدة، كما يبدو. ويعني عكس ذلك تفجير العلاقات التركية الأميركية في ملفّات ثنائية وإقليمية عديدة لا تقلّ أهمّية وخطورة عن الملفّ السوري، وكلا الطرفين غير مستعدّ لاحتمالٍ أو سيناريو من هذا النوع.

المؤكّد حتى الآن أنّ العملية العسكرية التركية التي تتمسّك بها أنقرة، ستتحوّل إلى اختبار مهمّ لسياسة التوازن والانفتاح التركي على واشنطن وموسكو في وقت واحد

حتى الآن لا يوجد الكثير عن تفاصيل الحوار الأميركي الروسي الذي جمع مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز ورئيس جهاز المخابرات الخارجية الروسي سيرغي ناريشكين برعاية تركية في أنقرة. لكنّ التفاؤل حمله قرار مواصلة الحوار في إسطنبول بين الطرفين وسط تكتّم شديد على طبيعة “الحوار الفنّي” الذي يدور على مستوى الخبراء وعلى جدول أعماله، فيما ليس واضحاً هل شهدت الطاولة محادثات ثلاثية جمعت الأميركيين والروس والأتراك أم لا.

إنّ احتمال أن تكون المفاوضات الجارية بين الأطراف بشكل ثنائي في الغرف الخلفيّة لقصر دولمه بهشه التاريخي في إسطنبول، هو الذي يؤخّر موعد العملية العسكرية التركية المرتقبة، وقد يلغيها تماماً إذا ما أخذ الجانب التركي ما يريده على الطاولة بدلاً من محاولة نيله في ميادين شمال سوريا بالقوّة.

يتمسّك كلّ طرف بما يقول ويريد في سوريا. التفاهمات المستحيلة سببها حجم التشابك والتداخل في الملفّ واستحالة تفعيل أو تلميع اتفاقيات سياسية وأمنية وعسكرية أكل الدهر عليها وشرب، سواء في اتفاقية أضنه التركية السورية عام 1998، أو في مذكّرات التفاهم التركية الأميركية أو التركية الروسية في تشرين الأول 2019. هل ما يجري من إعادة تموضع للأطراف هدفه فتح الطريق أمام بداية جديدة للّعبة في سوريا؟

تردّد القيادات التركية أن لا تراجع عن قرار استهداف التقارب الأميركي مع “قسد” (قوات سورية الديموقراطية) و”مسد” (مجلس سورية الديمقراطية)، وتتمسّك القيادات الأميركية باللاعب المحلّي الكردي الذي يمثّل ورقتها السورية الوحيدة في مواجهة الجميع. بعكس روسيا الحريصة على الشفافيّة المطلقة في الكشف عن سياستها السورية وما تريده هناك، تتحفّظ واشنطن على أهدافها وتترك الأبواب مشرّعة أمام أكثر من سيناريو من خلال الاحتماء بالقرار الأممي 2254 المطّاطيّ.

وعلى طريقة “بق البحصة يا أنطون”، لا تنقطع التصريحات والمواقف النارية التصعيدية بين اللاعبين الفاعلين في سوريا. فمظلوم عبدي (قائد قوات قسد) يهدّد بإشعال الحدود التركية السورية بأكملها عند تحرّك القوات التركية، فيما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقول إنّ سوريا تجلس على فوهة بركان.

 

واشنطن تبحث عن مقايضة مع أنقرة

يعلن جون كيربي منسّق الاتصالات في مجلس الأمن القومي الأميركي أنّ واشنطن لا تريد أن ترى عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا. إذ تبحث واشنطن عن مقايضة تركية أميركية قد تصل إلى المساومة على التراجع عن ورقة “قسد”، مقابل اصطفاف تركي إلى جانب أميركا في مواجهة النفوذ الإيراني الإقليمي والابتعاد قليلاً عن موسكو، فيما يردّد إردوغان “تحوّلنا من دولة تتلقّى الأوامر إلى دولة تعطي الأوامر”. فهل ينطبق توصيفه هذا على المشهد السوري؟ ما الذي يعنيه إذن الانفتاح على النظام في دمشق وإعلان مولود شاووش أوغلو وزير خارجيّته قبل يومين أنّ “واقعيّة النظام في دمشق هي التي ستحدّد مواقفنا حياله وقرار الانفتاح عليه من عدمه”؟

يعلن جون كيربي منسّق الاتصالات في مجلس الأمن القومي الأميركي أنّ واشنطن لا تريد أن ترى عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا

الغرابة عند إردوغان

غريبٌ أن يفتح إردوغان الأبواب أمام حوار أميركي – روسي على الأراضي التركية، وأن يعلن في الوقت نفسه أنّ أنقرة بعثت إلى واشنطن صور وفيديوهات مئات الشاحنات الأميركية وهي تنقل المزيد من السلاح إلى “قسد” في شرق الفرات، أم أنّ ما يفعله الرئيس التركي هنا هو الردّ على منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي دعا أنقرة إلى الالتحاق بالقرارات الغربية في مواجهة موسكو، وتذكير الأخير بحجم التقارب الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي بين البلدين الذي شهد ارتفاع أرقام واردات النفط والفحم وتأسيس الشركات الروسية في تركيا إلى 4 أضعاف خلال عام واحد فقط؟

 

أنقرة أقرب إلى الحلّ السياسيّ

يتمسّك صانع القرار التركي بوضع اللاعبين المحليّين والإقليميّين المؤثّرين في الملف السوري أمام خيارات محدّدة: إمّا تحريك القوات التركية البرّية أو إعطاء أنقرة ما تريده. يبدو أنّ أنقرة باتت أقرب إلى خيار الحلّ السياسي منها إلى الحسم العسكري. لكنّها تريد أن ترى العروض والبدائل التي تُقدّم لها والقابلة للتنفيذ على الأرض بما يرضيها ويطمئنها، وهي:

– مقايضة تركية روسية على خط منبج – كوباني مقابل تقدّم قوات النظام الى المناطق الحدودية بعد انسحاب عناصر “قسد” من المكان.

– مقايضة أميركية تركية تشمل تخلّي أنقرة عن عمليّتها العسكرية مقابل تعهّد أميركي بإعادة هيكلة “قسد” وتعريفها وتحديد أهدافها ومشروعها في سوريا، والقطع مع مجموعات وعناصر حزب العمال الكردستاني سياسياً وأيديولوجياً.

– سحب ورقة الطاقة الاستراتيجية من يد “وحدات الحماية” في شرق الفرات.

– تعهّد بإنهاء ملفّ داعش بجوانبه الأمنيّ والقانوني والسياسي بشكل تدريجي خلال فترة زمنية مقبولة.

يوضح إبراهيم كالين المتحدّث باسم الرئاسة التركية أنّ بلاده أعطت مهلة لكلّ من الولايات المتحدة وروسيا لإخراج “قسد” من المناطق التي تسيطر عليها في منبج وتل رفعت وعين العرب

تواصل استخباريّ بين أنقرة ودمشق

يؤكّد وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أنّ المحادثات مستمرّة بين الاستخبارات التركية والسورية، وأنّ أنقرة مستعدّة للعمل والتعاون مع دمشق في مجالات مكافحة الإرهاب والمضيّ قدماً بالعملية السياسية في سوريا، وعودة اللاجئين، إذا تصرّف النظام هناك بجدّية وواقعية. أمّا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فيقول إنّه “لدينا مع تركيا اتفاقيات ملموسة بين الرئيسين بوتين وإردوغان حول خفض التصعيد في منطقة إدلب، اقتضت الفصل بين المعارضة المعتدلة التي تقبل الحوار مع حكومة الأسد وبين هيئة تحرير الشام الإرهابية وأتباعها”. في حين يحذِّر المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جيمس جيفري من “انهيار” علاقة واشنطن وأنقرة إذا مضت العملية قدماً. فيما كلّ لاعب محلّي وإقليمي مؤثّر في المشهد السوري يقرأ مسار الملفّ على طريقته وبما يتلاءم مع حساباته ومصالحه.

المؤكّد حتى الآن أنّ العملية العسكرية التركية التي تتمسّك بها أنقرة، ستتحوّل إلى اختبار مهمّ لسياسة التوازن والانفتاح التركي على واشنطن وموسكو في وقت واحد، وهي السياسة التي بناها الرئيس إردوغان بعد حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في عام 2015 حتى اليوم.

إقرأ أيضاً: “قسد” – واشنطن: قبلة الوداع؟

المؤشّرات الدبلوماسيّة أعلى من القتاليّة

يوضح إبراهيم كالين المتحدّث باسم الرئاسة التركية أنّ بلاده أعطت مهلة لكلّ من الولايات المتحدة وروسيا لإخراج “قسد” من المناطق التي تسيطر عليها في منبج وتل رفعت وعين العرب، وأنّ العملية العسكرية البرّية ستكون البديل في حال عدم الاستجابة والانسحاب. لكنّ مؤشّرات سياسية ودبلوماسية أخرى تقول إنّ التريّث وانتظار نتائج الحوار مع موسكو وواشنطن هما سيّدا الموقف. لماذا تُنجَز طبخة الجنوب السوري عام 2018 بمعرفة وقبول واشنطن، من خلال ضمانات روسية بعدم فتح الطريق أمام وصول ميليشيات إيرانية إلى المناطق الحدودية والتزام النظام بعدم السماح لمجموعات “قسد” بالتحرّك في هذه المناطق، وتفشل المحادثات الثلاثية التركية الأميركية الروسية في شمال سوريا؟

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…