أعلن المتحدّث باسم البنتاغون بات رايدر أنّ الضربات الجوّية التركية الأخيرة في شمال سورية “هدّدت سلامة العسكريين الأميركيين”، وأنّ الوضع المتصاعد “يعرِّض للخطر سنوات من التقدّم في مواجهة مقاتلي تنظيم داعش”. لكنّ منسّق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي كان أكثر وضوحاً وهو يشرح المواقف الأميركية: “تواجه تركيا تهديداً إرهابياً على حدودها الجنوبية، ولها الحقّ في الدفاع عن نفسها”، لكنّ لدى الولايات المتحدة “مخاوف من العمليّات عبر الحدود، فقد تجبر شركاءنا في قوات سورية الديمقراطية على ردّ فعل يحدّ من قدرتهم على محاربة تنظيم داعش”.
تهديدات “قسد” أميركيّة؟
يستمدّ مظلوم عبدي القيادي الكردي في “قسد” شجاعته من هذه التصريحات فيعلن أنّ المواجهات ستكون مختلفة هذه المرّة، و”سنشعل الحدود التركية – السورية بأكملها إذا نفّذت القوات التركية عملية عسكرية برّية ضدّنا”.
تعتبر “قسد” أنّ تراجعها في المناطق الحدودية وتسليم أسلحتها الثقيلة وفتح الطريق أمام عودة قوات النظام السوري لإدارة شؤون مدنها وقراها تعني الانتحار ونهاية حلم الإدارة الذاتية الذي تعدّ له منذ 8 سنوات. وقرار مواجهة القوات التركية، كما يبدو لها ومهما كانت النتائج، هو أفضل من تكرار سقطة مهاباد قبل 77 عاماً نتيجة التحالفات والتوازنات التي خيّبت الآمال آنذاك.
آخر طرفة يردّدها البعض في القامشلي اليوم هي أنّ قوات التحالف الدولي التي تشكّلت لمحاربة داعش لن تترك “قسد” لوحدها، وأنّها ستنتقل إلى مواجهة القوات التركية دفاعاً عن مشروعها في سوريا.
إذا لم يحصل اللقاء التركي – الأميركي على هامش اجتماعات قمّة الأطلسي في رومانيا، فهذا دليل على أنّ المسألة حُسمت ولا تراجع عن خيار تحريك القوات التركية
إذا صحّت المعلومات المتداولة عن رفض مجموعات “قسد” العرض الروسي بالانسحاب من المناطق الحدودية المجاورة للأراضي التركية وتسليمها لقوات بشار الأسد، فهذا يكشف أنّ تقارب أنقرة وموسكو في سوريا اليوم أوسع ممّا يبدو عليه، لأنّ الرسالة العلنيّة مصدرها قيادات حزب العمّال لكنّها أميركية بامتياز من وراء الستار.
حين يهدّد مظلوم عبدي فإنّ لسانه يتحرّك بشحن وتعبئة أميركيَّين. هذا ما كانت تحذّر أنقرة منه حليفها الأميركي من دون أن تلقى آذاناً صاغية. السلاح والعتاد الأميركيّان المقدّمان بالأطنان لـ”قسد” سيوجَّهان إلى القوات التركية عندما يحين وقت تحرُّك أنقرة لإفشال مشروع الحكم الذاتي الكردي في سوريا، المدعوم من إدارة بايدن بعدما تخلّت عنه إدارة دونالد ترامب أمس.
الكرد تستنجد بداعش؟
إنّها هستيريا أميركية في سوريا، تريد واشنطن تحويلها هستيريا سوريّة تفجّر الجبهات كلّها، ما دام ما تطمح إليه هي وحليفها المحلّي لن يتحقّق. وليس مستبعداً خروج مجموعات داعش من السجون التي تديرها “قسد” لتعقيد المشهد الميداني وتحميل أنقرة المسؤولية، ما دامت واشنطن لن تقدم على خطوة انتحارية: تحويل جنودها دروعاً بشريّة تدافع عن مواقع “قسد” ومخازن أسلحتها.
يقول إبراهيم كالين مستشار الرئيس التركي إنّ العملية العسكرية التركية قد تكون مختلفة. حدّد رجب طيب إردوغان مناطق العمليات في عين عرب ومنبج وتل رفعت، لكنّ تلميحات كالين قد تفتح الأبواب على توسيع رقعة المواجهات حتى تصل إلى العمق السوري في الحسكة ومدن حدودية أخرى بينها القامشلي والدرباسية وعامودا.
لا تُحصى المواجهات الحادّة بين الأتراك والرئيس الأميركي جو بايدن. أهمّها زيارته الوداعية لإسطنبول في مطلع عام 2016 عندما جاء يلقي على تركيا نصائحه حين كان نائباً لأوباما فرجع بخفّي حُنين.
إذا لم يحصل اللقاء التركي – الأميركي على هامش اجتماعات قمّة الأطلسي في رومانيا، فهذا دليل على أنّ المسألة حُسمت ولا تراجع عن خيار تحريك القوات التركية. والاحتمال كبير أن تدير روسيا وجهها إلى الجانب الآخر حين تتحرّك القوات التركية في شمال شرق سوريا.
رسائل إردوغان الانفتاحية على دمشق هدفها طمأنة موسكو وإعلامها بأنّ أنقرة لا تريد الاحتكاك بقوات نظام الأسد الذي من مصلحته التخلّص من مشروع “قسد” على ثلث الأراضي السورية. والخطوة الثانية بعد العمليات العسكرية التركية هي تفعيل الحوار السياسي لإخراج سوريا من الانسداد الحاصل.
مشكلة “قسد” اليوم أنّها لم تأخذ العبر من احتمال تخلّي واشنطن عنها ومقايضتها بأوراق سياسية بديلة، كما فعلت أكثر من مرّة في أكثر من مكان
أميركا وانسحاباتها
تلوّح أنقرة منذ عامين بتنفيذ عملية عسكرية خامسة في شمال سوريا. قد تفتح تطوّرات أمنيّة وسياسية طريقها للحصول على ما تريده هذه المرّة، فتقلب الحسابات والسيناريوهات في سوريا وجوارها. المؤشّر إلى ذلك هو تصريحات القيادات التركية في اليومين الأخيرين: “تركيا لن تحصل على إذن من أحد لمحاربة التنظيمات الإرهابية”، و”لسنا مضطرّين إلى تحمّل رياء القوى الداعمة لتنظيم حزب العمّال الإرهابي”.
مشكلة “قسد” اليوم أنّها لم تأخذ العبر من احتمال تخلّي واشنطن عنها ومقايضتها بأوراق سياسية بديلة، كما فعلت أكثر من مرّة في أكثر من مكان. للتأكّد من ذلك تكفي نظرة خاطفة على الانسحاب الأميركي السريع من بيروت مطلع الثمانينيات لصالح النفوذ الإيراني، ثمّ تسليم المشهد العراقي الكارثي بعد عام 2010 إلى الفوضى، وتحطيم آمال المراهنين عليها في أفغانستان وتركهم يلهثون وراء آخر الطائرات المزدحمة بالهاربين من طالبان في مطار كابول.
الكرد ومأساتهم
لم يعد أمام “قسد” الكثير من الخيارات. ولن ينفعها رفع صور عبدالله أوجلان في تظاهرات القامشلي الاحتجاجية، وتذكُّر مظلوم عبدي فجأة أنّ “سوريا جزء من جامعة الدول العربية”، وتلويحه للمرّة العاشرة بالتنسيق مع قوات النظام السوري: “حماية المنطقة هي وظيفة الجيش السوري ونتطلّع إلى التنسيق للتصدّي للهجمات التركية”.
تريد “قسد” الاحتماء بقوات النظام السوري، لكنّها تتّهمه منذ عقود بقتل الكرد في سوريا. تتمسّك بمشروع الحكم الذاتي بالتفاهم مع واشنطن وموسكو، لكنّها تتذكّر فجأة أنّ سوريا أرض عربية على العواصم العربية الدفاع عنها.
إقرأ أيضاً: الطريق إلى الانتخابات التركيّة: مفاجآت كلّ لحظة
تقع “قسد” بين فكّي كمّاشة النظام والروس والإيرانيين من جهة وبين التقدّم العسكري التركي البرّي من جهة أخرى. فإمّا أن تتراجع عن هدف الحكم الذاتي في شرق وشمال سوريا وتنهي علاقتها بحزب العمّال وتعود إلى مشروع النظام السوري، وإمّا أن تتحمّل نتائج إطلاق أول قذيفة أميركية سُلّمت لها في إطار مهامّ معيّنة، باتجاه تركيا حليف واشنطن الإقليمي وثاني أكبر قوّة عسكرية برّيّة في الحلف الأطلسي.
خيّبت أنقرة آمال بايدن أكثر من مرّة منذ السبعينيات حتى اليوم. وهو لم يتردّد في فعل الشيء نفسه في ملفّات كثيرة. فما الذي سيجري الآن؟ وكيف سيكون شكل الحوار التركي – الأميركي في تطوّرات المشهد السوري وأكثر من نقطة تباعد عالقة بين البلدين؟ ترامب ليس في البيت الأبيض ليرفع سمّاعة الهاتف ويقول لإردوغان دعنا نتفاهم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@