تقرير بريطانيّ: وقائع خسارة بوتين معركة احتلال كييف

مدة القراءة 9 د

تخوض أوكرانيا حرباً وجودية مع روسيا، القوة النووية العظمى. لكنّ هذه الحرب فرصة للغرب لا تُقدَّر بثمن لتقويم القدرات العسكرية الحقيقية لروسيا الاتحادية، واختبار مجموعة من إمكانيات الحرب الحديثة، حسب تقرير “المعهد الملكي للخدمات المتحدة Royal United Services Institute (RUSI)”، وهو أقدم مؤسّسة متخصّصة في العالم (أُسِّس عام 1831)، وفي طليعة المراكز البحثية البريطانية التي تُعنى بالشؤون الأمنيّة والدفاعية.

يحمل التقرير عنوان: “دروس أوّليّة في الحرب التقليدية مستفادة من غزو روسيا لأوكرانيا: شباط – تموز 2022” Preliminary Lessons in Conventional Warfighting from Russia’s Invasion of Ukraine: February–July 2022.

اللافت أنّ التقرير يستعجل استخراج الدروس العسكرية من الحرب الروسية – الأوكرانية، قبل أن تضع الحرب أوزارها. والداعي إلى ذلك استخلاص الدروس الصحيحة من الصراع، لأنّه أمر حيويّ في مسألتين:

الأولى تتعلّق بأوكرانيا، إذا كانت ستحصل على الدعم العسكري المناسب من شركائها.

الثانية تتعلّق بأعضاء حلف “الناتو”، ولا سيّما بريطانيا، إذا أرادوا التأكّد من أنّهم قادرون عسكريّاً على ردع العدوان في المستقبل.

تخوض أوكرانيا حرباً وجودية مع روسيا، القوة النووية العظمى. لكنّ هذه الحرب فرصة للغرب لا تُقدَّر بثمن لتقويم القدرات العسكرية الحقيقية لروسيا الاتحادية، واختبار مجموعة من إمكانيات الحرب الحديثة

ماذا عالج التقرير؟

اعتمد التقرير على بيانات العمليّات المتوافرة لدى هيئة الأركان العامّة الأوكرانية، وما حصلت عليه الاستخبارات الأوكرانية من وثائق روسيّة، من دون كشف أسرار حسّاسة خلال الحرب المستمرّة حتى أمد غير معلوم. واستخلاص الدروس ينبغي أن يستند إلى أساس متين من المعلومات، لا إلى السردية الإعلامية الرائجة، ومقاطع الفيديو المنتشرة.

شارك في تحرير التقرير (69 صفحة) الجنرال الأوكراني ميخايلو زابرودسكي Mykhaylo Zabrodskyi، وهو يشغل منصب نائب اللجنة التابعة للمجلس الأعلى الأوكراني للأمن القومي والدفاع والاستخبارات. وكذلك الدكتور جاك واتلينغ Jack Watling المتخصّص بالحرب البرّية، وألكسندر دانيليوك Oleksandr Danylyuk، الخبير في الشؤون العسكرية الروسيّة، والمستشار السابق لرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية في أوكرانيا، ومساعد قائد الجيش الأوكراني عام 2014، ونيك رينولدز Nick Reynolds المحلّل في مجال الحرب البرّية.

يتناول التقرير جوانب أساسية من الحرب: كيف خطّط الروس للغزو، الجهة المسؤولة عن وضع الخطّة، الفرضيّات الخاطئة التي قامت عليها خطّة الغزو، المدى الزمني لاحتلال كلّ أوكرانيا، الإجراءات المقرّرة سلفاً لإعادة بناء نظام سياسي جديد في أوكرانيا بعد تصفية كلّ الأفراد ذوي العلاقة بثورة الكرامة عام 2014، تطويع باقي شرائح المجتمع، والآثار العمليّاتيّة للفشل الأصلي في التخطيط، الذي انعكس في التنفيذ العشوائي والأداء السيّئ في مسارح العمليات، ولا سيّما حول العاصمة كييف، وكيفية استيعاب الأوكرانيين الهجوم على الرغم من تفاوت ميزان القوى بين الجيشين الروسيّ والأوكراني.

خطّة أمنيّة لغزو عسكريّ

كان هدف روسيا الاستراتيجي في غزوها هو إخضاع الدولة الأوكرانية. ووضع الخطة:

– الأمن الفدرالي (FSB) إثر تحويل القسم التاسع من الجهاز الخامس إلى مديرية خاصة مهمّتها التخطيط لاحتلال أوكرانيا.

– مجموعة أساسية داخل الإدارة الرئاسية، مدعومة بكبار الضبّاط في وزارة الدفاع.

قام الأمن الفدرالي بمسح مكثّف للمجتمع في أوكرانيا. ورسمت هذه الاستطلاعات صورة مضلّلة عن المجتمع الأوكراني: لامبالٍ سياسياً إلى حدّ كبير، ولا يثق بقادته السياسيين، وجلّ اهتمامه هو الاقتصاد، فضلاً عن عدم ترجيحه قيام حرب مع روسيا. وأكّد بوتين بنفسه هذا الأمر في مقال له في تموز 2021 عندما اعتبر أنّ الأوكرانيين ينظرون إلى الروس بشكل إيجابي، وأنّهم جزء من حضارة مشتركة مع الروس، وأنّ هذه الحضارة انقسمت بقسوة بسبب الأخطاء السياسية التاريخية. ورأى بوتين أنّ العائق أمام تصحيح هذه الأخطاء، هو الحكومة في كييف، التي هي دمية في يد قوى خارجية معادية لروسيا. إلى ذلك، كان قائد الأركان الروسي فاليري غيراسيموف Valery Gerasimov على ثقة من أنّ جيشه سيهزم القوات الأوكرانية، بفضل التحديث الذي خضع له الجيش الروسي على مدى عقد من الزمن.

وبناء على تقديرات أجهزتها الأمنيّة، بدأت روسيا في آذار 2021 بحشد قواتها على طول حدود أوكرانيا. وكان الهدف ثلاثة أمور:

– أوّلاً، الضغط على الحكومات الغربية لإعادة التزام أوكرانيا باتفاقات مينسك الثانية لعام 2015، والقاضية بمنح مقاطعتَيْ لوهانسك ودونيتسك في الشرق حكماً ذاتياً.

– ثانياً، نشر المعدّات العسكرية مسبقاً حول أوكرانيا، بما يسمح بحشد القوات بسرعة عندما يحين وقت الغزو.

– ثالثاً، إمكانية تقويم الردّ المحتمل لشركاء أوكرانيا الدوليين.

وقامت خطّة الغزو على افتراضات رئيسية هي:

– سرعة التقدّم الروسي داخل أوكرانيا، وهو أمر أساسي للنجاح بحيث تصبح الاستجابة الدولية متأخّرة وغير ذات صلة.

– إزاحة القيادة السياسية في كييف يزيل العائق أمام الأوكرانيين الموالين لروسيا كي يعلنوا دعمهم الاحتلال.

– التحكّم بالتدفئة والكهرباء والتمويل، هو وسيلة فعّالة للسيطرة على الغالبية الأوكرانية اللامبالية.

مع أنّ الروس أخطأوا تقدير حجم المقاومة الأوكرانية، وافترضوا أنّهم سيكونون موضع ترحيب أو عدم اكتراث على الأقلّ، إلّا أنّهم تمكّنوا من احتلال جنوب أوكرانيا بسهولة

توقّعات روسيّة متفائلة

أمّا التوقّعات الروسية على المستوى العمليّاتيّ، فارتكزت على أنّ أوكرانيا لن تتمكّن من إضافة سوى 40 ألف جندي إلى جيشها، وأنّ السرعة المتوقّعة للعملية ستتخطّى قدرة أوكرانيا على التعبئة. وأدّى هذا إلى إصدار أوامر للوحدات الروسية بالتقدّم على شكل قوافل بلا حماية، مع تجاوز أيّ مقاومة أوّليّة والالتفاف حولها. وتوقّعت الخطّة الروسية أن يكتمل احتلال أوكرانيا في اليوم العاشر، فتنتقل الوحدات الروسية إلى مرحلة فرض الاستقرار، إذ لن تواجه سوى وحدات متفرّقة من القوات الأوكرانية النظامية وفلول وحدات المقاومة.

وكان مفترضاً أن تنشغل القوات الروسية النظامية بعد اليوم العاشر للغزو بدعم الأجهزة الأمنيّة الروسية المسؤولة عن إنشاء إدارات الاحتلال، بما أنّ هذه الأنشطة كانت حاسمة لتوكيد نظرية الانتصار الروسية. وكان مفترضاً أن يفرّ المسؤولون الحكوميون الأوكرانيون أو يقعوا في الأسر نتيجة المباغتة السريعة للقوات الغازية. وكان متوقّعاً أن تمنع الصدمة العسكرية التعبئةَ الفوريّةَ للسكّان. أمّا أعمال المقاومة والاحتجاج، فكان مخطّطاً أن تواجَه بالتفكيك الهادف للمجتمع الأوكراني، وتتولّى قوات الحرس الوطني ((Rosgvardia ووحدات مكافحة الشغب دعم القوات النظامية في احتواء الاحتجاجات الشعبية. وفي الوقت نفسه، كُلّف الأمن الفيدرالي الروسي بالقبض على المسؤولين المحلّيين في أوكرانيا المحتلّة، إذ قام الجواسيس الروس بجمع القوائم التي قسّمت الأوكرانيين إلى أربع فئات:

– الفئة التي يُراد تصفيتها لتورّطها في ثورة الكرامة عام 2014 ضدّ الرئيس الموالي لموسكو.

– الفئة التي ينبغي قمعها وترويعها.

– الفئة التي يمكن حثّها على التعاون.

– الفئة المستعدّة للتعاون.

السرّيّة الزائدة أفشلت العمليّة

مع أنّ الروس أخطأوا تقدير حجم المقاومة الأوكرانية، وافترضوا أنّهم سيكونون موضع ترحيب أو عدم اكتراث على الأقلّ، إلّا أنّهم تمكّنوا من احتلال جنوب أوكرانيا بسهولة. ما يدلّ على أنّ سرعة التقدّم هناك كانت ناجحة فعلاً في تجاوز الوحدات الأوكرانية وتطويقها، هو احتلال خيرسون عاصمة الإقليم الذي يحمل اسمها، ومليتيبول، وفرض الحصار الدموي على ماريوبول قبل احتلالها.

نقاط ضعف في التخطيط والتنفيذ كان سببها مبالغة القيادة في السرّية والتضليل. مجموعة صغيرة جدّاً من المسؤولين الروس هم الذين وضعوا الخطط، بتوجيه من بوتين. ولم يكن كثير من القادة العسكريين المولجين بتنفيذ العملية الخاصة في أوكرانيا، على علم بمدى العملية وصورتها النهائية. وحتى نواب رؤساء الأفرع داخل هيئة الأركان العامّة الروسية، لم يكونوا على دراية بنيّة احتلال أوكرانيا قبل أيّام من بدء الغزو. أمّا الكتائب العسكرية التكتيكية فلم تتلقَّ الأوامر إلا قبل ساعات من دخولها أوكرانيا.

ساعد هذا كلّه في تحقيق مفاجأة عمليّاتية روسية. لكنّ المفاجأة لم تقتصر على الأوكرانيين وحلفائهم الغربيين، بل طالت أيضاً الضبّاط والجنود الروس، فدخلوا في إطار مجهول، ومن دون التزوّد بما يكفي من الخطط التفصيلية والطارئة، والإمدادات، والاتصالات المشفّرة، والذخيرة، والاستعداد القتاليّ. حتى إنّ الخرائط التي كانت بحوزتهم تعود إلى زمن سابق. وقد تغيّرت الجغرافيا السكّانية إلى حدّ كبير. وتسبّب هذا الوضع الغريب بسقوط خسائر فادحة في الرجال والمعدّات في بدايات الغزو، في حين أنّ الجيش الأوكراني المدرّب وفق عقيدة قتالية غربية، كان أكثر مرونة في التصدّي والاشتباك. فمع أنّ وحدات أوكرانية عدّة حوصرت إثر تقدّم الجحافل الروسية السريع على الطرق العامّة، وتجاوزها المدن والبلدات، إلا أنّ القادة الميدانيين نفّذوا تعليمات مسبقة بالتعامل الفوري مع أيّ وحدة روسية من دون انتظار أيّ أوامر إضافية من المركز.

إقرأ أيضاً: الصين في الرياض… 72 ساعة تُزعج أميركا

72 ساعة حاسمة

نجح الروس ابتداء في تضليل الأوكرانيين الذين اعتقدوا أنّ الهجوم الرئيسي سيكون في الشرق، من جهة الدونباس، فيما الهجوم شمالاً نحو كييف هو مجرد إلهاء. وهذا بخلاف التحذيرات الغربية للقيادة الأوكرانية. فلمّا تبيّن أخيراً أنّ الهجوم الرئيسي سيكون نحو العاصمة، تبدّلت خطط الانتشار، وتسارعت قبل 72 ساعة من الاجتياح. جرى تفريغ مخازن الذخيرة الرئيسية وتوزيعها في أماكن مختلفة. وكذلك الطائرات وأسلحة الدفاع الجوّي قبل ساعات من العملية الروسية. أُعيد انتشار القوات الأوكرانية قبل 7 ساعات من القتال، وسُحبت قوّات من الجنوب إلى كييف، فتُرك الساحل بلا قوّات كافية. كان الوقت قصيراً لإنجاز إعادة الانتشار بين المحاور الشمالية والجنوبية، فوجدت بعض الوحدات الأوكرانية نفسها في اشتباك مباشر مع العدوّ. وكثير من الوحدات الأوكرانية خاصة في الشمال لم تكن في المواقع المخصّصة لها في 24 شباط الماضي. والنقطة الحاسمة أنّ امتلاك القوات الروسية زمام المبادرة في بداية الحرب، أدّت إلى أن تُفاجأ وحداتها التكتيكية في الميدان بالأوامر الصادرة إليها، في حين أنّ القوات الأوكرانية التي فوجئت على المستوى العمليّاتي، كانت وحداتها التكتيكية مستعدّة نفسيّاً وعمليّاً على مدى ثماني سنوات لخوض الحرب. وسيكون التفاعل بين هذه المتغيّرات حاسماً على صعيد ما ستؤول إليه معارك الأيّام الثلاثة الأولى، وأثرها في ما عُرِف لاحقاً بمعركة كييف، وفي مجمل الحرب.

لقراءة الملف كاملاً اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…