إذا كانت الحرب الأوكرانية هي الحدث الأهمّ عالمياً في النصف الأوّل من عام 2022، فلا شكّ أنّ “قمم الرياض” (السعودية – الصينية والخليجية – الصينية والعربية – الصينية) هي الأهمّ في النصف الثاني من العام الذي شارف على نهايته، ولها ما بعدها على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والتنموية.
ليس حدثاً عابراً أن يزور “زعيم مصنع العالم” الرئيس الصيني شي جينبينغ منطقة الشرق الأوسط، وليس خبراً عاديّاً أن يعقد قمّة مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بمشاركة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وأخرى مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي، وثالثة مع قادة الدول العربية.
بالنسبة إلى السعودية ودول الخليج، ليس مطروحاً استبدال العلاقات القويّة والاستراتيجية مع الولايات المتحدة بعلاقات مماثلة مع الصين، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير
السعوديّة بوّابة النجاح
أن يختار رئيس الصين المملكة العربية السعودية ليمُدّ جسور التعاون مع العالم العربي عموماً، والدول الخليجية خصوصاً، فيه الكثير من بُعد النظر والحِكمة السياسية. فالسعودية هي قُطب الرحى ومركز الثقل في المنطقة، والبوّابة الإلزامية لأيّ نجاح اقتصادي وتنموي، في ظلّ النهضة الكبرى التي تعيشها بقيادة الأمير الشابّ محمد بن سلمان الذي أصبح “رقماً صعباً” في المعادلات الإقليمية والدولية والاقتصادية.
لم يعتَد الخليجيون على رؤية رئيس غير أميركي يزور الرياض ويعقد لقاءات قمّة مع دول الخليج والمنطقة.
ظاهرياً، تطرح هذه المشهدية تساؤلات عن العلاقات السعودية خصوصاً، والخليجية عموماً، مع الولايات المتحدة، وعن تعلُّق الأمر باستبدال نفوذ بآخر، أو مصالح بأخرى. لكن عمليّاً وواقعيّاً، لا علاقة للحقيقة بظاهر المشهدية، لأنّ الاقتصاد هو المحرِّك هنا وليس السياسة.
السعوديّة والصين والمصالح المشتركة
السعودية والصين تبحثان أوّلاً وقبل كلّ شيء عن مصالحهما المشتركة، وكيف يمكن لكلّ دولة منهما إفادة الأخرى بما ينعكس ازدهاراً على نموّ اقتصادها، من خلال تقاطع المصالح.
يُستدلّ على ذلك من أحدث أرقام عام 2022: المملكة هي أكبر مورّد للنفط إلى الصين باستحواذها على 18 في المئة من إجمالي مشتريات الصين من الخام، حيث بلغ إجمالي الواردات في الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي 73.5 مليون طن (بما يعادل 1.77 مليون برميل يومياً)، بقيمة 55.5 مليار دولار.
كما تُعدّ الصين أكبر شريك تجاري للسعودية، إذ وصلت قيمة الصادرات الصينية إلى المملكة نحو 30 مليار دولار في 2021.
صحيحٌ أنّ العلاقات الاقتصادية والاستثمارية هي المحرّك الأساسي الذي تُبنى عليه العلاقات السياسية، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ سياسات الصين القائمة على عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، والتوازن البعيد عن فرض الإملاءات، وعدم التورّط والانغماس في الصراعات، تنظر إليها دول الخليج باحترام وتقدير.
ترى بكين في الشرق الأوسط سوقاً كبيرة للاستثمار، فيما ترى دول الخليج في الصين خصوصاً، ودول آسيا عموماً مثل الهند واليابان، مفتاحاً لمستقبلها الاقتصادي القائم على تنويع العلاقات تجنّباً للاعتماد المطلق على الولايات المتحدة.
إذا كانت الحرب الأوكرانية هي الحدث الأهمّ عالمياً في النصف الأوّل من عام 2022، فلا شكّ أنّ “قمم الرياض” هي الأهمّ في النصف الثاني من العام الذي شارف على نهايته
المملكة بين “أميركا أوّلاً” و”المارد الصينيّ”
بالنسبة إلى السعودية ودول الخليج، ليس مطروحاً استبدال العلاقات القويّة والاستراتيجية مع الولايات المتحدة بعلاقات مماثلة مع الصين، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير، وترتبط بمُحدّدَيْن أساسيَّيْن:
– الأوّل يتمثّل بصعود المارد الصيني الذي يقترب من قمّة الترتيب الاقتصادي على مستوى العالم، مع ما يوفّر ذلك لدول الخليج من فرص هائلة، سواء في ما يتعلّق بمبادرة “الحزام والطريق” الصينية وربطها بالإصلاحات الهيكلية لاقتصادات دول الخليج، أو ما يرتبط بالاستثمارات المتبادلة.
– الثاني يتعلّق بالعلاقات مع الولايات المتحدة، وشعار “أميركا أوّلاً” الذي رفعه الرئيس السابق دونالد ترامب علناً، لكنّه كان عمليّاً مُطبّقاً منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما واستمرّ مع الرئيس الحالي جو بايدن، ويرتكز على أنّ الولايات المتحدة لن تنظر إلى الأضرار اللاحقة بالحلفاء، عندما تمضي إلى تحقيق مصالحها.
يفتح باب التقارب الصيني – السعودي الباب واسعاً أمام الاستفادة الاقتصادية المتبادلة، من دون التأثير على شكل التحالفات الأخرى. فالصين أصلاً ترتبط بعلاقات اقتصادية ضخمة مع الولايات المتحدة، ويعملان معاً على إبقاء “التنافس” بينهما تحت السيطرة، منعاً لتحوّله إلى صراع، كما كاد يحدث أخيراً بسبب تايوان، وما اعتبرته بكين استفزازاً متواصلاً لها.
تالياً، ترتكز سياسة دول الخليج على توازن دقيق، قوامه تطوير العلاقات مع الصين، بالتوازي مع الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
“عظمة” السعوديّة اقتصاديّاً
في آذار 2022، قال الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الشهيرة مع مجلة “ذا أتلانتيك”، ردّاً على سؤال عن الضغوط الأميركية على المملكة، إنّ “السعودية ليست دولة صغيرة، فهي من ضمن دول مجموعة العشرين، وأسرع البلدان نموّاً في العالم، لدينا القدرة على تلبية 12 في المئة من الطلب على البترول في العالم، والسعودية تقع بين ثلاثة مضائق بحريّة، وتطلّ على البحر الأحمر والخليج العربي، ويمرّ من خلالها 27 في المئة تقريباً من التجارة العالمية، وإجمالي الاستثمارات السعودية في أميركا هو 800 مليار دولار، وفي الصين، حتى هذا الوقت، استثمرنا أقلّ من 100 مليار دولار، لكن يبدو أنّها تنمو هناك بسرعة كبيرة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: أين تكمن الإمكانات العالمية؟ إنّها في المملكة العربية السعودية، وإذا أردتَ (يُخاطب هنا الأميركي) تفويتها، فهناك أشخاص آخرون في الشرق سيكونون سعداء للغاية”.
إقرأ أيضاً: قمّة بايدن-ماكرون: تفويض باريس لحلحلة في لبنان؟
وأضاف: “إنّ أيّ دولة في العالم لديها مصالح أساسية: اقتصادية، وسياسية، وأمنيّة، وهذا هو الأساس الرئيس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية لأيّ دولة، كيف يمكنني دفع عجلة اقتصاد دولتي؟ وكيف يمكنني تعزيز أمنها؟ وكيف يمكنني تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية، للتأكّد من أنّ دولتي آمنة وتنمو، ولديها مزيد من فرص الاستثمار والتجارة؟”.
في آذار 2022 سال حبر كثير وتناثرت عشرات التعليقات على ما جاء في مقابلة الأمير الشابّ، وفي كانون الأول 2022 ستكون العيون الأميركية شاخصة إلى الرياض لمدّة 72 ساعة، طوال الأيام الثلاثة من زيارة الرئيس الصيني، لتراقب شكل القمم ومضمونها ونتائجها.