ظهرت المفاوضات بخصوص الملفّ اللبناني وكأنّها ثنائية بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. غير أنّها في الحقيقة “رباعية” مع الحضور القويّ للمملكة العربية السعودية بصفتها عرّابة اتفاق الطائف المتّفقة مع فرنسا، خصوصاً بعد البيان الثلاثي في نيويورك نهاية أيلول الفائت، ومع طيف الكرسي الرسولي الفاتيكاني الحاضر بدبلوماسيته الناعمة والثاقبة، وبمواقفه ورؤيته المتعلّقة بلبنان وكيانيّته، وذلك لحلّ الأزمة بعد نجاح لقاء المصارحة الأخير بين الحبر الأعظم البابا فرنسيس والرئيس إيمانويل ماكرون في روما على هامش لقاء السلام في سانت إيجيديو، والتناغم التامّ حول المدخل إلى حلّ الأزمة اللبنانية. وقد استعاد ماكرون الثقة الفاتيكانية بخصوص لبنان وصحّح الاختلاف والهواجس بعد صدور البيان الثلاثي.
لن تُنتج هذه القمّة حلّاً سريعاً للخروج من الشغور. ولن تكتفي كذلك ببيان إعلامي وكلمات منمّقة. لكنّها ستشكّل بتفاهماتها المدخل الأساسي إلى الحلحلة. وقد نجحت الإدارة الفرنسية في أخذ الموافقة الأميركية الضمنيّة على فحوى الجلسات والحوارات الفرنسية مع حزب الله الذي تصنّفه أميركا إرهابيّاً.
ظهرت المفاوضات بخصوص الملفّ اللبناني وكأنّها ثنائية بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. غير أنّها في الحقيقة “رباعية” مع الحضور القويّ للمملكة العربية السعودية
لقد أصبح ماكرون الوكيل الأميركي لبعض قضايا المنطقة، ومنها الأزمة اللبنانية. ومن الممكن أن تظهر إشارات هذا التفويض في قمّة بغداد-2 في عمّان في 20 كانون الأوّل الجاري، المعوَّل عليها من قبل بايدن وماكرون أن تشكّل اختراقاً إيجابياً في العلاقة السعودية – الإيرانية بتوافق أميركي وسعي فرنسي إلى انفراجة في لبنان. وبعدها يُنتخب رئيس جمهورية، على غرار التفاهم الأميركي – الإيراني الصغير الذي أنتج الترسيم البحري.
أضحى ماكرون همزة الوصل الأميركية – السعودية – الإيرانية. وهو يحاول التوصّل إلى حلّ يمنحه مكاسب داخلية على مستوى فرنسا والاتحاد الأوروبي، ويضمن أن تكون له كلمة في المنطقة من بوّابة لبنان. لقد اتفق الرئيسان على وجوب الإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة والمضيّ إلى تطبيق الإصلاحات. لكنّ المقاربة العملانية للرئيسين مختلفة، غير أنّها لا ترقى إلى الخلاف. فهل تبقى المصالح فوق الصداقات؟ وهل نشهد الحلحلة؟
البوّابة السعوديّة
يعمل سيّد الإليزيه على إيجاد فرصة ظرفية كتلك التي تشبه تأليف حكومة نجيب ميقاتي، وإسقاطها على رئاسة الجمهورية، لكن بفارق وحيد: إلزامية مرور الحلّ بالبوّابة السعودية، وشطب اسم أيّ شخصيّة لا تحظى بثقة المملكة، وتساير هيمنة حزب الله على لبنان، وتقدّم خدمات لإيران بما يخالف التفاهم الدولي والعربي. فالمملكة اعتمدت “البيان الثلاثي” الذي يتحدّث عن تطبيق القرارات الدولية واتفاق الطائف، قاعدةً ومعياراً لأيّ توافق، وأميركا وفرنسا وقّعتا عليه، والباقي تفصيل يخضع للمرونة الملائمة.
يعمل الرئيس الفرنسي على فصل الملفّ اللبناني عن دهاليز الاتفاق النووي والمباحثات بشأنه بين إيران ودول “الخمسة + أميركا”، ويحاول تجهيز البيئة الداخلية اللبنانية وتعبيدها بالقبول الإقليمي المواكب لها، وخاصة مع المملكة العربية السعودية والفاتيكان، بهدف الوصول إلى تسوية. وحسب مصادر سياسية في الخارجية الفرنسية، تعمل فرنسا على إقناع المملكة بضرورة الحوار المباشر أو غير المباشر مع الجانب الإيراني برضا أميركي للوصول إلى تقاطع مشترك يؤدّي إلى بلوغ تسوية انطلاقاً من الإيجابية التي تكرّست في اتفاق الترسيم.
يعمل سيّد الإليزيه على إيجاد فرصة ظرفية كتلك التي تشبه تأليف حكومة نجيب ميقاتي، وإسقاطها على رئاسة الجمهورية، لكن بفارق وحيد: إلزامية مرور الحلّ بالبوّابة السعودية، وشطب اسم أيّ شخصيّة لا تحظى بثقة المملكة
تفويض أميركيّ لماكرون
يحمل الكثيرَ من المعاني التعقيبُ الخجول والتهنئةُ المتبادلة بين بايدن وماكرون بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وكأنّ هذه التهنئة مصالحة علنية على شرف لبنان واعتراف بالجهود والشراكة المتبادلة والنوايا الحسنة. وهذه دلالة دامغة على أهميّة لبنان. وعلى الرغم من الاختلاف في الأسلوب بين واشنطن وباريس فإنّهما تحرصان على توحيد موقفهما ورؤيتهما واستثمار توافقهما.
ربّما يكون بين الدولتين تقاطعٌ مشتركٌ لبلوغ انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية ووضع حدّ لمرحلة الشغور، ثمّ وضع البلاد على الطريق الصحيحة للتعافي والإصلاح، مع التسلّح بالتفاعل الإيجابي والتنسيق والتوافق السعودي – الفرنسي المشترك حول 3 عناوين:
– “البيان الثلاثي” محلاً أساسياً لأيّ حلّ
– توسيع دائرة التشاور الإقليمي
– محاولة تحييد مسار ملف لبنان عن الاتفاق النووي
وصل زائر الدولة الفرنسي إلى أميركا حاملاً الملفّ اللبناني تحت إبطه باعتباره أولويّة أساسية، فيما تشهد العلاقة الفرنسية – الإيرانية خلافات جمّة ترتاح لها أميركا، ويأتي أبرزها على خلفيّة الثورة الإيرانية المتجدّدة وموقف فرنسا وأوروبا الداعم لها. لكنّ ماكرون تمكّن من سحب بايدن إلى جانبه في ما يخصّ الوضع اللبناني، وأقنعه برؤيته، مع أنّ ما يهمّ الرئيس الأميركي هو النفط والأمن الإسرائيليان واستقرار لبنان وضمان تطبيق اتفاقاته والتزاماته الدولية.
إقرأ أيضاً: بايدن-ماكرون: رئيس للبنان يرعى خرائط الطاقة!
نجح ماكرون في الاستحواذ على تفويض أميركي محدود من خلال البيان الثلاثي السعودي – الأميركي – الفرنسي الذي صدر في نيويورك قبل أسابيع، والذي من الممكن أن تظهر فاعليّته في حال تمكّن ماكرون من إقناع بايدن بالذهاب إلى تسوية لبنانية يديرها بفضل اتصالاته مع اللبنانيين، خصوصاً حزب الله، باعتبار أنّ مهمّة الفرنسي هي امتصاص الصدمات والتواصل مع الطرف الآخر.