يبدو أنّ مونديال كأس العالم سيكون هذه المرّة مليئاً بالسياسة، أكثر من كرة القدم. وإذا كانت السياسة واحدة من “المحاولات” الكروية الدائمة، إلا أنّها هذه المرّة ترتدي طابعاً عربياً غير مسبوق.
فليس صدفةً أن يحقّق المنتخب السعودي فوزاً تاريخياً على منتخب الأرجنتين، ولاعبه الأسطوري ليونيل ميسي. وليست مسألة عابرة أن يخصّص الملك السعودي يوم عطلة وطنية للاحتفال، وأن يظهر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وهو يحتفل مع أشقائه. ما يؤشّر على أنّ الرياضة ستحتلّ مكانة أكبر لدى الانظمة العربيّة. وما يدلّ على أنّ هناك شيءٌ ما يتغيّر في نظرة العرب إلى أنفسهم، وفي قوّتهم على المسرح الرياضي.
برزت أيضاً في الكواليس المليئة بالكاميرات، دبلوماسيّة الرياضة على أرض “ملعب البيت”. فكان لافتاً حضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حفل الافتتاح ومصافحته الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان برعاية أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، وحضور وليّ العهد السعوديّ إلى جانب قادة خليجيين وعرب.
وقد أراد أمير قطر أن يظهر مرتدياً العلم السعوديّ وهو يشجّع الفريق السعوديّ. صورة رياضية حملت رسائل سياسيّة خليجيّة وعربيّة وإقليميّة.
يبدو أنّ مونديال كأس العالم سيكون هذه المرّة مليئاً بالسياسة، أكثر من كرة القدم
أما الرسالة السياسيّة الأبرز فكانت من الفريق الايراني. فقد أراد لاعبوه أن يكونوا “صوت الشعب” الذي يقتله نظام الملالي منذ شهرين في ظلّ صمت دوليّ قاتل أيضاً، فرفضوا أداء النشيد الوطني، الذي هو عبارة عن نشيد “ولاء” لنظام ولاية الفقيه، وليس نشيداً “وطنياً”.
هكذا يمكن الحديث عن نجاح قطر في “لملمة” خلافاتها السياسيّة الخليجيّة والعربيّة قبل حدثها الرياضيّ. وهي نجحت أيضاً في جعل الحدث الرياضيّ الأشهر عالميّاً مناسبةً لتلاقي الأديان والحضارات والثقافات من خلال لوحة “لتعارفوا”، و”فضاءً مفتوحاً للتواصل الإنساني والحضاريّ”، كما قال أمير قطر في كلمته الافتتاحيّة.
في الجيوسياسة:
الطريق إلى هذا اليوم لم تكن سهلة. فقد تحمّلت قطر الكثير من الانتقادات التي كانت بغالبيّتها ذات خلفيّات سياسيّة، ولها أبعاد جيوسياسية.
لكن ما دخل السياسة والجيوسياسة بالرياضة؟
سؤال طرحته على أستاذي أبو الجيوسياسة في فرنسا إيف لاكوست في عام 2004، والسبب أنّ أحد زملائي في الجامعة اختار “جيوسياسة الألعاب الأولمبية” موضوعاً لأطروحة الماستر. فراح لاكوست، يستفيض في شرح الأبعاد السياسيّة والجيوسياسيّة للرياضة ومبارياتها.
في عام 2014 أصدر باسكال بونيفاس، مؤسّس ومدير “معهد العلاقات الدوليّة والاستراتيجيّة” (IRIS) في باريس، كتاباً بعنوان “جيوسياسة الرياضة”، يفصّل فيه الأبعاد الجيوسياسيّة للرياضة ولاعبيها ومبارياتها ويشرح كيف تصبح أحياناً أكثر عالميّة من السياسة ورجالاتها وأحداثها. فمَن منّا يعرف اسم رئيس الأرجنتين أو اسم رئيس وزراء البرتغال؟ في حين أنّ الكلّ يعرف ليونيل ميسّي، اللاعب الأرجنتيني، وكريستيانو رونالدو، اللاعب البرتغالي. ولا يزال اللاعب الأسطورة البرازيلي بيليه معبود الجماهير بعد مضيّ أكثر من نصف قرن على اعتزاله. في المقابل قلّة من الناس عرفت مَن فاز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في البرازيل.
الرياضة كسياسة
الرياضة واحدة من أبرز ظواهر العولمة. ولكنّها تتميّز عنها بنقطتين أساسيّتين:
1- عدم هيمنة الولايات المتحدة الأميركيّة على الرياضة كما تسيطر على الإعلام والاقتصاد والتكنولوجيا والفنّ وغيرها من ظواهر العولمة. فالفريق الأميركي لكرة القدم مثلاً ليس من الفرق البارزة عالمياً. ولم يصل يوماً إلى نهائيّاتها. وبالطبع لا يضع لاعبيه أيّ نجمة على صدورهم.
2- لا تمحو المباريات الرياضيّة الهويّة الوطنيّة، بل تعزّزها. على خلاف باقي ظواهر العولمة التي تشكّل خطراً على الهويّة الوطنيّة والاجتماعيّة للشعوب. فكأس العالم لكرة القدم مناسبة لإبراز الهويّة الوطنيّة للدولة. يجتمع مواطنو الدولة كلّهم خلف فريقهم ويدعمونه متناسين خلافاتهم وصراعاتهم السياسيّة. وغالباً ما يحضر رؤساء الدول مباريات فرقهم الوطنيّة. ويتنقّل المشجّعون مع فريقهم الوطنيّ من بلد إلى آخر. لذلك تحوّلت قطر إلى ورشة بناء هائلة منذ أن فازت بتنظيم “مونديال 2022″، ليس لتشييد الملاعب فقط، بل والفنادق والبنى التحتيّة اللازمة (طرقات، ومترو، وباصات…) لاستقبال مليونَيْ مشجّع سيحضرون المونديال 2022. وقُدّرت كلفة كلّ هذه الورشة بـ 200 مليار دولار.
كان للرياضة دور بارز في الحصار الذي فُرض على روسيا على خلفيّة حربها ضدّ أوكرانيا. فقد استبعدتها منظّمة الفيفا من مبارياتها المقبلة
الصعود القطريّ
ليست المرّة الأولى التي تلعب الإمارة الخليجيّة الغنيّة دوراً على الساحة الرياضيّة العالميّة. فقد ترافق دخولها الملاعب مع صعود قوّتها الاقتصاديّة والإعلاميّة والدبلوماسيّة على الساحتين الإقليميّة والعالميّة منذ بداية القرن الحالي.
منذ العام 2008 يقدّم أمير قطر “كأس قوس النصر” للفائز باسم دولة قطر. وهو واحد من أشهر الكؤوس في رياضة ركوب الخيل في فرنسا والعالم. ومنذ سنوات تملك قطر فريق باريس لكرة القدم. إلى ذلك برزت أسماء دول وأمراء وشركات خليجيّة على الساحة الرياضيّة بسبب شراء فرق رياضيّة أو رعاية مبارياتها. وأخيراً اشترى أحد أمراء أبو ظبي حصّة كبيرة في فريق رياضي إسرائيليّ. وهو ما يُساهم في إبراز الواقع الجيوسياسيّ الجديد لدول الخليج العربيّ.
أوروبا وسياساتها الرياضيّة
هذا ليس بالجديد في عالم السياسة ولا في عالم الرياضة. ففي عام 1960، لم تحصد الفرق الفرنسيّة أي ميدليّة ذهبيّة في الألعاب الأولمبية في روما،. أدرك شارل ديغول أهميّة الرياضة في تكوين صورة فرنسا العالميّة، فزاد في دعمها على الرغم من أنّه لا يهواها. ونظّمت اليابان تلك الألعاب عام 1964، وأرادتها حدثاً يُبرز إعادة بناء اقتصادها وتطوّرها بعد الحرب العالميّة الثانية. وتولّت الأرجنتين تنظيم الألعاب ذاتها في عام 1968، وكان ذلك مؤشّراً إلى بداية تطوّر بلدان أميركا الجنوبيّة. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّك يوغوسلافيا، ساهمت الفرق الرياضية، بخاصّة في كرة القدم، في بروز الهويّة الوطنيّة للعديد من الدول التي استعادت استقلالها، وفي عودتها إلى الساحة العالميّة.
إقرأ أيضاً: هل تكون السعوديّة الوُجهة المُقبلة للبابا؟
كان للرياضة دور بارز في الحصار الذي فُرض على روسيا على خلفيّة حربها ضدّ أوكرانيا. فقد استبعدتها منظّمة الفيفا من مبارياتها المقبلة. واستُبعدت أيضاً من مباريات كأس أوروبا لكرة القدم. وباع الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش فريق تشيلسي الإنكليزي الذي يملكه منذ عام 2003.
لكن هذه المرّة كانت “السياسة” عربية.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@