خرج الرئيس السابق ميشال عون من القصر خروجاً مخزياً، ليس فيه احترامٌ لنفسه ولا للمنصب الذي كان فيه. ألقى في جمهورٍ مجموعٍ من المصفّقين خطاباً شعبوياً ليس فيه شيء من الإقناع أو الاعتبار للمنطق ولعقل المواطنين.
رئيس التنصل والفساد
قال إنّه طوال ستّ سنوات ما استطاع تأمين استقلالية القضاء، ولا ضبط سياسات البنك المركزي، ولا وقف الفساد. ولماذا؟
زعم أنّ “المنظومة” منعته من ذلك! وهو على رأسها ولا يمرّ شيءٌ بدون موافقته. وقد مُرِّرت ألوف الأمور له ولصهره أوّلاً وللآخرين من بعد. وهو المسؤول الأوّل والأخير عن عدم استقامة أمور القضاء، إذ امتنع عن إجازة التشكيلات القضائية التي أجمع عليها مجلس القضاء الأعلى، وسلَّط غادة عون (اللي ما تتسمّاش كما يقول المصريون!) القاضية الفاضية من كلّ شيء. وهو الذي جدّد لحاكم المصرف المركزي ثمّ انقلب عليه. أمّا الفساد فحدِّثْ ولا حرج. فقد بدأ اعتداؤه على المال العامّ منذ أواخر الثمانينيّات، ثمّ مضى بالأموال إلى فرنسا. ولو لم يكن من فساد إلّا ما “أنجزه” مع صهره في ملف الكهرباء (نصف الدَين العامّ ولا كهرباء!) لكفّى ووفّى، فكيف والفساد العوني أوصل الوطن والمواطنين إلى جهنّم؟ كما قال عون نفسه.
التخلّي عن الطائف الذي صار لا يقرؤه أحدٌ من السياسيين المسيحيين فيما يبدو! هو إسقاطٌ للدولة وللعيش المشترك، ولشرعيّات البلاد الوطنية والعربية والدولية
مناضل في عمر الـ88
وما كفاه هذا كلّه في آخر ساعات رئاسته الميمونة فسار إلى ارتكاب خَطَلٍ دستوريٍّ هو الواحد بعد الألف في الخروج على الدستور في عهد عون وصهره: أرسل رسالةً في شكل مرسوم إلى مجلس النواب يبلغه فيها بقبول استقالة الحكومة. والحكومة مستقيلة بالفعل منذ انتخاب مجلس النواب وتُصرِّف الأعمال إلى حين تشكيل حكومة جديدة. والرئيس ميقاتي نفسه مكلَّف بذلك مرّةً ثانية في الاستشارات الملزمة بمجلس النواب. ولذلك قال ميقاتي إنّه لا مفاعيل دستورية لِما قام به عون. فالأمر إعلانيّ وليس إنشائيّاً، وستستمرّ الحكومة في القيام بمهامها كالمعتاد.
لماذا فعل عون ذلك؟ فعله شرّاً ولؤماً ومزيداً من الإعاقة والتعطيل. وهو قال أخيراً إنّه ماضٍ إلى النضال (من أجل تولّي صهره رئاسة الجمهورية من بعده)(!). ويعرف، وهو في الثامنة والثمانين من عمره، أنّ النضال وراءه، لكنّ الأمر كما قال صلوات الله وسلامه عليه: إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت.
هل كانت هذه المقدّمة ضرورية لِما نحن بسبيله؟
نعم كانت ضروريّةً لإيضاح الصعوبات الكبيرة التي يعاني منها كلُّ من يحاول الحفاظ على دستور البلاد والدعوة إلى تطبيقه. فمعسكر عون وباسيل ما تزال له قوى عند المسيحيين. وحزب الله لا يجاهر بالاختلاف معه على أيّ شيء. لكنْ هناك أخبارٌ مبشِّرات. فالرئيس نبيه برّي يريد الحفاظ على الطائف بعدما صمت عن ذلك زماناً. والمفتي الجعفريّ أحمد قبلان يريد ذلك أيضاً، بعدما كان يدعو إلى تغيير النظام. ولا بدّ أن ترتفع أصوات عند المسيحيين بعدما شبعوا من تجربة عون وشعبويّاته وأحقاده. لا ينبغي أن يبقى فارس سعيد وحيداً. لقد تعدّدت الأصوات المسيحية المعتبَرة أخيراً. وكنت أريد ذكر البطريرك الراعي لولا النغمة الغريبة التي طلع بها أخيراً. كيف تقبلون يا صاحب الغبطة بالفراغ المطلق بحجّة العقدة إيّاها، بينما شرعيّة عون مثل شرف الإمبراطورة تيودورا؟! لقد أضعت ما جمعته خلال سنتين ونيّف!
حقوق السنّة مطلب مخجل
أنا هنا بصدد الحديث عن السُنّة والطائف والدستور. ولستُ أزعم أنّ كبار أهل السُنّة وفي طليعتهم المفتي قد تخلَّوا عن الطائف. لكنّ أفعالهم وردود أفعالهم في زمان عون بالذات، كانت تفتقر إلى الحماسة، وأدنى إلى الدفاع. الدفاع عن رئاسة الحكومة وصلاحيّاتها، وعن وجود السُنّة في الوظائف العامّة. وقد انفصل في منطقهم السياسي والإداري طوال عهد عون مطلب الوجود والحجم في الدولة، عن مطلب الطائف والدستور إلى حدٍّ بعيد. صار هناك حديث عن “حقوق السُنّة”، وهو أمرٌ مخجل، وأفظع من الحديث عن حقوق المسيحيين، وأفضال الشيعة على البلاد، لأنّنا نزعم لأنفسنا دوراً وطنيّاً فوق الطائفية والطوائف، وما قُتل المفتي حسن خالد وثلاثة من رؤساء الحكومة لو كان همُّهم الدفاع عن حقوق السُنّة! وقد ذكرتُ من قبل في موقع “أساس” كلام بعضهم عن أنّهم يشعرون بالاستضعاف لأنّهم صاروا وحدهم في هذه المسألة. ولإعادة الأمور إلى نصابها وقد اتّضح الكثير في الأسابيع الأخيرة، لا بدّ من التذكير (وليس للتبرير) أنّ مقاربتهم الدفاعية هذه علّتُها إقدام عون على افتراس رئاسة الحكومة بشكلٍ كامل. وقد كنت أطمح عندما قال ميقاتي إنّ مرسوم عون غير دستوري إلى أن يعود للأصل ويُلقي مطالعةً في الحفاظ على الطائف والدستور ووثيقة الوفاق الوطني باعتبارها حلّاً وطنياً وإنقاذاً وطنياً ليس لرئاسة الحكومة فحسب، بل ولرئاسة الجمهورية، ومجلس النواب.
فالتخلّي عن الطائف (الذي صار لا يقرؤه أحدٌ من السياسيين المسيحيين فيما يبدو!) هو إسقاطٌ للدولة وللعيش المشترك، ولشرعيّات البلاد الوطنية والعربية والدولية.
ما هو الطائف؟
تعالوا ننظر في ما لم يُطبَّقْ من الطائف، وكلّها أمورٌ لا تتّصل بمصالح السُنّة وحدهم ولا أولويّة لهم فيها. هناك اللامركزية التي يريدها المسيحيون موسَّعة، ولا تطبيق لصغيرها أو كبيرها حتى اليوم. وهناك تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي، وهو مطلب من يسمُّون أنفسهم تغييريّين ويريدون الدولة المدنية، ومعظمهم من المسيحيين. وهناك استحداث مجلس الشيوخ الذي يتصدّى لمخاوف المحافظين من المسيحيين ويمتلك صلاحيّات معتبَرة. وهناك استقلالية القضاء الذي استتبعه رئيس الجمهورية وعطّله، وسلّط أمثال غادة عون بعد بيتر جرمانوس عليه. وهناك ضمانات الكفاءة والنزاهة في الوظيفة العامّة، التي عطّلها جميعاً عون وصهره، واستبدلا بها الولاء للصهر العزيز. وهناك أوّلاً وآخِراً الهويّة العربية والانتماء العربي، اللذان لا يعنيان القهر لغير العروبيين، بل كانا وينبغي أن يعودا ضمان الحاضر والمستقبل. ولدينا أيضاً وأيضاً انفراد الدولة بالسلطة على أرضها، وانفراد أسلاكها العسكرية والأمنيّة بالسلاح، والاستناد إلى القرارات العربية والدولية في السيادة والاستقلال.
لدى أهل السُنّة وكلّ الوطنيين الآن فرصة لاستعادة الطائف والدستور ووثيقة الوفاق الوطني. وهذا الأمر ليس حقّهم فقط، بل هو واجبُهم بالدرجة الأولى. واجبهم باعتبارهم وطنيين لبنانيين، وباعتبارهم يريدون للبنان ولأولادهم مستقبلاً هدّدهم عهد عون بل وكلّ مسيرته السياسية بإلغائه وزواله.
لدى أهل السُنّة وكلّ المواطنين فرصة الإصرار على رئيس “توافقي”، بمعنى التوافق على تطبيق الطائف والدستور بدءاً بالعام الأوّل من العهد الجديد. في الحوار الذي دعا إليه رئيس مجلس النواب إذا جرى، ينبغي أن تتكوّن كتلة وازنة عمادها أهل السُنّة تفرض على مرشّحي الرئاسة مواصفات أولاها الإخلاص للطائف والدستور واعتزام العمل على تطبيقه بكلّ مندرجاته. وليس في ذلك استهانة بالمرشّح ولا إرغام، بل هو مقتضى الأمانة لدستور البلاد وقوانينها في كلّ بلدان العالم.
إقرأ أيضاً: نهاية عهد التخريب: العودة إلى الطائف لاستعادة الدولة
صورة عون وصورة لبنان الآن، بل ومنذ سنوات، في منتهى السوء. والتلاقي على الدستور والقوانين المرعيّة الإجراء هو المَعْلَم الأوّل للإنقاذ من الانهيار، والاستعادة التدريجية لنظام عيش اللبنانيين وحياتهم.
رحمك الله يا رفيق الحريري، لقد قلت: ما في حدا أكبر من بلده. نعم، وعندما نتصاغر نحن عن القيام بالواجب الوطني يصير عندنا رئيس مثل عون، ويبدأ الوطن بالتصاغر. فحيَّ على الوطن الكبير، والمواطن الأكبر. ولتكن تجربة التخلّي عن الدستور ذكرى سيّئة لن تتكرّر.