تضافرت عوامل كثيرة ساعدت على التوصّل إلى مسوّدة الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل عبر الوسيط الأميركي آموس هوكستين، بحيث أمكن ترداد المراقبين وبعض المسؤولين أنّ إنجازه بات في “الأمتار الأخيرة”.
لكنّ المخاوف لدى بعض الجهات الحذرة من أن يؤخّر التجاذب الإسرائيلي الداخلي حول مسوّدة الاتفاق التوقيع على نصّه، صدقت مع إعلان مصدر إسرائيلي أمس عن رفض التعديلات التي اقترحها لبنان وسلّمها الثلاثاء إلى الجانب الأميركي، بعدما كان حصل على ما طالب به في المفاوضات، أي الخط 23 مستقيماً مع حقل قانا كاملاً والعائدات الماليّة للجزء الواقع في المنطقة الإسرائيلية، وهذه هي أسس المطلب اللبناني.
جاء الموقف الإسرائيلي بينما روّج بعض الوسط السياسي لآمالٍ تفيد أنّ الاقتراب من إنجاز الاتفاق يؤثّر إيجاباً وتسهيلاً لإجراء الانتخابات الرئاسية، وربّما تشكيل الحكومة.
كان الإلحاح الأميركي على إنهاء الاتفاق قبل نهاية ولاية عون مخيّباً لآمال بعض من كانوا يتمنّون ألا يحصل الأخير على هذا الإنجاز في آخر أيام ولايته
انعكاس الترسيم على انتخاب رئيس مجرّد “رغبات”
قبل الإعلان عن الرفض الإسرائيلي للملاحظات أو التعديلات اللبنانية، كان المعنيون بمفاوضات الترسيم يستبعدون انسحاب المناخ الإيجابي المتعلّق بالترسيم على الاستحقاق الرئاسي أو الحكومي، معتبرين أنّه أقرب إلى الرغبات كما قال أحد المسؤولين الذين انخرطوا في المفاوضات مع هوكستين لأنّ انتخاب الرئيس يتوقّف على اتفاق اللبنانيين أوّلاً ما دام هناك حاجة إلى ضمان نصاب الثلثين من أجل انعقاد البرلمان لإنجاز الاقتراع. وهذا أمر متعذّر من دون تفاهم بين كتل نيابية من الفريقين العريضين اللذين يتألّف منهما البرلمان، لتوفير أكثرية 86 صوتاً، وانتخاب الرئيس بالأكثرية المطلقة، أي 65 صوتاً أو أكثر من أصل 128 هم أعضاء المجلس النيابي.
على الرغم من أنّ المراهنين على انسحاب الإيجابيّة في الترسيم على الرئاسة والحكومة يرون أنّ تحقيق الفريق الرئاسي المتمثّل برئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل “إنجاز” الترسيم بمساعدة رئيسَيْ البرلمان نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي، قبل نهاية العهد، يجب أن يقابله هو وباسيل بتسهيل الانتخابات الرئاسية أو تشكيل الحكومة، فإنّ المسؤول الذي يستبعد هذا الاحتمال يعتقد أنّ التقدّم الذي حصل في اتفاق الترسيم له علاقة بالاستحقاق الرئاسي اللبناني وغيره من الاستحقاقات، لكن من زاوية معاكسة لهذه الرغبات.
وفي المقابل كان الإلحاح الأميركي على إنهاء الاتفاق قبل نهاية ولاية عون مخيّباً لآمال بعض من كانوا يتمنّون ألا يحصل الأخير على هذا الإنجاز في آخر أيام ولايته. ومع الترويج الرسمي لنجاح لبنان في انتزاع ما أراد، استبقت مصادر مراقبة الرفض الإسرائيلي للملاحظات اللبنانية بالتحذير من استخدام رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد تلك الملاحظات حجّة من أجل تأخير النهاية السعيدة لمفاوضات الترسيم، بعدما تعرّض لحملة من منافسه الشرس في الانتخابات بنيامين نتانياهو.
إلحاح أميركيّ على الترسيم قبل 31 تشرين
المسؤول الذي شارك في المفاوضات ربط استحقاقين انتخابيّين ساهما في تعجيل إنجاز هوكستين مسوّدة الاتفاق:
الأول هو اقتراب نهاية ولاية الرئيس عون في 31 تشرين الأول. فالجانب الأميركي اعتبر منذ البداية أنّ إنجاز الترسيم قبل مغادرة عون أكثر ضمانة لأنّ ما بعده ليس واضح المعالم، سواء إذا حصل فراغ رئاسي أو إذا انتُخب رئيس فإنّه يحتاج إلى وقت من أجل الإمساك بالملفّ، وقد يكون لديه موقف مغاير لموقف عون في ما يتعلّق بالخط 23 في ظلّ تعدّد وجهات النظر اللبنانية حول ضمان حقوق لبنان، أو الخط 29 الذي يرفضه الأميركيون والإسرائيليون. فمن جهتها تهتمّ واشنطن باقتراب موعد 31 تشرين الأول الرئاسي، باعتباره توقيتاً فاصلاً بالنسبة إلى الترسيم، وهمّها الرئيسي من وراء استعجال الاتفاق هو تأمين جزء من بدائل الغاز الروسي لأوروبا.
واشنطن شجّعت لابيد على الإنجاز قبل الانتخابات
أمّا الاستحقاق الثاني فهو الانتخابات النيابية الإسرائيلية المنتظرة بتاريخ الأول من تشرين الثاني المقبل، والتي دفعت واشنطن إلى استعجال الاتفاق قبلها، تداركاً لأيّ تغيير في تركيبة السلطة في إسرائيل وسط خشية من أن يؤدّي فوز بنيامين نتانياهو إلى تصلّب إسرائيلي في الترسيم وينسف الاتفاق. والدليل حملة نتانياهو على منافسه الانتخابي لابيد، واتّهامه بأنّه “استسلم” لتهديدات “حزب الله” وأمينه العامّ حسن نصر الله وتنازل عن حقوق سيادية إسرائيلية.
يؤكّد مصدر دبلوماسي لـ”أساس ميديا” تلك الخشية الأميركية قائلاً إنّ واشنطن شجّعت لابيد على تسريع الاتفاق قبل الانتخابات وكانت حجّتها أنّ ذلك يفيده وائتلافه مع الأحزاب الأخرى في هذه الانتخابات، إذ إنّ الناخب الإسرائيلي سينظر بإيجابية إلى إنجازه لأنّه يعزّز الإمكانيات الاقتصادية للدولة العبرية من عائدات استخراج الغاز ويوفّر الاستقرار على الحدود. وكشف المصدر أنّ الجانب الأميركي طمأن لابيد إلى أنّه سيدعمه بإمكاناته في هذه الانتخابات لمواجهة منافسيه مقابل تسريع الاتفاق.
تراهن واشنطن على استفادة لابيد من العلاقة معها وسط الجمهور الإسرائيلي. فصحيفة “هآرتس” (المعلّق ألوف بن) كتبت أنّ لابيد لم يتنازل لنصر الله بل لبايدن الذي يريد بأيّ ثمن ضمان تزويد أوروبا بالغاز للحفاظ على متانة التحالف الأميركي الأوروبي في المواجهة مع روسيا، وأنّ لابيد تجاوب مع بايدن لأنّ مصلحة إسرائيل في المقابل استمرار تأييد واشنطن لها في مواجهتها المتصاعدة مع الفلسطينيين، وفي وجه التهديد الإيراني المحتمل.
هذه العوامل دفعت المسؤول المشارك في المفاوضات إلى استبعاد استخدام لابيد الملاحظات اللبنانية حجّة لتأخير الاتفاق إلى بعد الانتخابات، لأنّ هذه الملاحظات بسيطة لا تأثيرات كبيرة لها على مسوّدة الاتفاق. لكنّه اعترف بأنّ إنجاز الاتفاق هذه المرّة يتوقّف على إسرائيل بسبب دخول الانتخابات كجزء من حسابات القيادة السياسية في إسرائيل، بينما لبنان كان أكثر جرأة في القبول بأفكار الترسيم. وأعطى مثلاً على ذلك إحدى الملاحظات التي صاغها الجانب اللبناني المتعلّقة بالبالونات العائمة التي رفض الجانب اللبناني اعتبارها وسيلة لرسم خط الحدود البحرية وصولاً إلى البرّ. وقال إنّ العوّامات موجودة أساساً، وكلّ ما يهمّ لبنان ألا تكون في الخطّ الذي قد يكون متنازعاً عليه انطلاقاً من نقطة الحدود البرّية، أي لا مانع من إبعاد تلك الطوّافات إلى جنوب الخط 23 بضعة أمتار، في انتظار الاتفاق على تصحيح الحدود البرّية.
الاستحقاق الانتخابيّ الأميركيّ
ثمّة من يضيف إلى دور الاستحقاقين اللبناني والإسرائيلي دور استحقاق الانتخابات الأميركية النصفية (المتوقّعة في 8 تشرين الثاني) في استعجال إدارة الرئيس جو بايدن عقد اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل قبل حصولها. وحجّة أصحاب وجهة النظر هذه أنّ بايدن والحزب الديمقراطي يواجهان ظروفاً انتخابية صعبة، وأنّ الترسيم قبلها يمنحهما رصيداً يمكن توظيفه في الانتخابات لتعديل التوقّعات منذ أشهر بأنّ الجمهوريين سيحقّقون تقدّماً ويحصلون على الأغلبية. يشير هؤلاء إلى أنّ تصريحات النائب الجمهوري تيد كروز الذي اتّهم “إدارة بايدن” بالضغط على لابيد من أجل التنازل لـ”حزب الله” وتهديدات نصر الله كما فعل بنيامين نتانياهو، تأتي في إطار المزايدة الانتخابية بين الجمهوريين والديمقراطيين، وكذلك تصريحات السفير الأميركي السابق في إسرائيل، الجمهوري ديفيد فريدمان الذي اعتبر أنّ الاتفاق “يعطي لبنان 100 في المئة من مطالبه وصفر لإسرائيل”. وهذا شبيه بالتوظيف الانتخابي السلبي للاتفاق من قبل نتانياهو في وجه التوظيف الانتخابي من قبل لابيد ومؤيّديه الذين اعتبروا أنّ فتح باب استخراج لبنان الغاز من حقوله سيخفّف من تبعيّته لإيران.
إقرأ أيضاً: رسم الحدود مع إسرائيل… رسالة إيرانيّة إلى واشنطن
إلا أنّ مصدراً دبلوماسياً لبنانياً على صلة بالجانب الأميركي ومتابعاً للسياسة الأميركية الداخلية، يقلّل من أهمية تأثير السجال الانتخابي بين الجمهوريين وإدارة بايدن على الترسيم، لأنّ استطلاعات الرأي في أميركا تؤكّد استمرار الغلبة لرفض الناخب تورّط بلاده في أيّ نزاع مسلّح في العالم، والاتفاق نفسه يلغي أيّ مواجهة عسكرية في الشرق الأوسط. ولن تؤثّر تصريحات الجمهوريين ضدّ بايدن في الناخبين اليهود الذين تميل أكثريّتهم، تاريخياً، إلى الحزب الديمقراطي، فضلاً عن أنّ مقياس ميول الناخب الأميركي تتعلّق بالوضع الاقتصادي الداخلي وليس بأمور بعيدة عن اهتماماته مثل ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل.