تُقاس الزلازل بالدرجات، وأشهرها مقياس ريختر. وتُقاس الأعمار بالسنوات، وأطولها في الرئاسات والعروش الملكة إليزابيث.
في عالمنا العربي أطول الرؤساء عمراً هو محمود عباس، الذي كلّما قطع شهراً من عمره ارتفع منسوب الجدل حول خلافته. وكلّما تُشاهد طائرة هليكوبتر أردنيّة في سماء رام الله تسري بين الناس همهمة عن حالته الصحيّة. لكن بالمقابل كلّما يظهر في استقبال ضيف أو حين يُستقبل من نظير له، وما أكثر ظهوره، حتى يقول الناس: يبدو أنّ كلّ ما قيل عن تدهور صحّته مجرّد شائعات لا يُستبعد أن تكون لإضفاء إثارة على حكاية خلافته وخلفائه.
عائلات وأرقام
الرئيس عباس الذي بلغ ما بلغه من العمر يعلم كلّ ما يُتداول من أقوال عن حالته وبورصة خلافته. وعلى الرغم من جدّيّة الموقف إلا أنّه لا يفقد حسّ الدعابة في إبداء رأيه إذ يقول: لماذا العجلة فأنا أنتمي إلى عائلة معمّرة، وقد يموت المنتظرون قبلي. ويقول القريبون منه إنّه يفصح لهم بالأرقام عن متوسّط أعمار عائلته، وأكثر الأرقام تواضعاً “95 سنة”.
المشترَك بين الفلسطينيين والبريطانيين هو وجود حياة وموت في كلّ زمان ومكان. أمّا المختلف، وهو كثير وجذريّ، فهم هناك وضعوا ضمانات حاسمة لانتقال السلطة على كلّ مستوياتها
في بريطانيا، وحتى في معظم بلدان العالم، لا ينهمك الجمهور في جدل حول إشكاليّات الرئيس أو الملكة. فكلّ ما يتّصل بهذا الأمر محسوم بصورة قاطعة في دساتير وقوانين الدول والعائلات الحاكمة، ومثلما ذهب جونسون بقليل من الصخب والإشكاليّات، جاءت خليفته بمنهجيّة وسلاسة ومن دون إشكاليّات.
ذهبت الملكة وجلس ابنها على العرش، وهتف البريطانيون والعالم: “ماتت الملكة، عاش الملك”.
خلافة عرفات المحسومة
في بلادنا، وما أعنيه فلسطين، ولا دخل لي بغيرها، لا شيء منهجيّ أو دستوريّ فعّال ومحسوم في أمر كهذا. كان الأمر مختلفاً حين كانت الخلافة محسومة حسب التراتبية العائلية في “فتح”. فحين دخل ياسر عرفات في احتضاره الطويل وقدّر المتابعون أنّ الموت فيه أقرب من الحياة، جرى تداول اسمين تاريخيَّين من “فتح”: فاروق القدّومي ومحمود عبّاس. استبعد القدّومي نفسه عن المنافسة، امتداداً لاستبعاد نفسه عن شروطها التي كان أهمّها الالتزام بأوسلو، والرجل عارضها منذ البداية.
أمّا محمود عباس فكانت الخلافة محسومة له. فمَن صنع أوسلو هو الأجدر بموقع الرئاسة والقرار لاستكمال ما بدأ به. وهكذا جرت الأمور بسهولة “إنكليزية”، كانتقال القلم الذي كان عرفات يوقّع به قراراته من يده اليمنى إلى يد عبّاس اليسرى. غير أنّ ما كان عشيّة وفاة عرفات والانتقال الفوري للرئاسة لم يعد قائماً، ولا حتى بعض منه، في أيّامنا هذه.
مخلّفات أوسلو
تغيّرت أوسلو التي كانت مشروع ترميم وإنقاذ وصارت مشروع تصفية للهدف الذي وُجدت من أجله، مع الاحتفاظ بمخلّفاتها التي تريدها إسرائيل والتخلّص ممّا يريده الفلسطينيون، فصارت المخلّفات بحدّ ذاتها عبئاً.
تغيّر الواقع الفلسطيني، إذ كان موحّداً ولم يكن هناك انقسام أفقي وعمودي، سياسي وجغرافي، عنوانه القديم والمستمرّ “فتح” و”حماس”، أو غزّة والضفّة، وعناوينه المستجدّة “فتح” و”فتح”. وحدثت انقسامات فرعيّة استشرت كنتاج للانقسامات الرئيسية، فطالت منظّمة التحرير التي تكاد لا تُرى في زمن ازدياد الحاجة إليها وإلى دورها.
تغيّر الواقع العربي والإقليمي والدولي حيث الانقلابات الجذرية التي لم تكن متوقّعة أو محسوبة، كزحف موجة التطبيع وتفشّي الأوبئة الصحّية والسياسية والحربية، ونشوء قضايا مستجدّة أكثر سخونة وإلحاحيّة، فوضعت القضيّة الفلسطينية، على أهميّتها في كلّ الأزمان، في مكان متأخّر وأزاحتها عن موائد صناعة القرار الإقليمي والدولي وحتى العربي، فلم نعد نرى أو نسمع ما يشير إلى أنّ هنالك مبادرة ولو لفظيّة لإحياء محاولات حلّها. تضافر كلّ ذلك ليحشر التجربة الفلسطينية، التي كانت واعدة في بداياتها، داخل زاوية ضيّقة جعلت العالم معنيّاً بعد تسليمه باستحالة الحلّ بأن لا يموت الفلسطينيون جوعاً أو قتلاً.
في هذه البيئة تُطرح حكاية الخلافة وما يُتداول عن صراع حولها هو في كلّ مجرياته أشبه بمحرقة للأشخاص والاعتبارات.
إقرأ أيضاً: إليزابيت الثانية… ترحل في وقت غير مناسب
المشترَك بين الفلسطينيين والبريطانيين هو وجود حياة وموت في كلّ زمان ومكان. أمّا المختلف، وهو كثير وجذريّ، فهم هناك وضعوا ضمانات حاسمة لانتقال السلطة على كلّ مستوياتها، وكثيرون ممّن هم في مثل حالنا أو قريبون منها أخذوا عنهم وعن أمثالهم هذا المبدأ، أمّا نحن فلا ضمانات عندنا لشيء.
أخيراً أقول: إنسانيّاً وأخلاقيّاً أدعو للرئيس عباس بطول العمر، ووطنيّاً وسياسيّاً أدعوه إلى أن ينتبه أكثر وبصورة أفضل لِما سيكون بعده.