أزمة الأزمات وإشكالية الإشكاليات وقضية الأمس واليوم وغداً هي مسألة الصراع الحادّ بين مشروعَيْ “الدولة” و”اللادولة” في العالم العربي والشرق الأوسط.
إنّه صراع شبيه تماماً بعبارة وليام شكسبير: “أن أكون أو لا أكون”. إنّه صراع وجوديّ جُنّدت له كلّ الأموال والأسلحة والعقول والضغوط والتدخّلات العسكرية.
إنّه صراع بين من يريد الحفاظ على الدولة الوطنية وبين من يريد تقسيمها بهدف السيطرة عليها.
وحتى يكون كلامنا ممنهجاً وعلميّاً تعالوا نعرّف مفهوم “الدولة” في العلوم السياسية: “الدولة، نظرياً، هي مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدّد ويخضعون لنظام سياسي معيّن متّفق عليه فيما بينهم يتولّى شؤون الدولة. وتُشرف الدولة على كلّ الأنشطة الأساسية في النظام، التي تهدف أساساً إلى تقدّم وازدهار وتحسين مستوى معيشة المجتمع”.
إذاً، لقيام الدولة لا بدّ من مساحة أرض، مجموعة من السكّان، سلطة سياسية حاكمة، ونظام اتصالات ومواصلات، والسيادة الكاملة على الأرض والسكّان وكلّ المؤسّسات والأنشطة، وأخيراً حصول هذا الكيان على اعتراف دولي من المؤسّسات الدولية ذات الصلة.
تعالوا نتأمّل مشروعات “اللادولة” في المنطقة:
الاستقواء بأيّ مشروع غير عربي يعني ببساطة انتحار حلم السذّج سياسياً، أمثالي. هؤلاء الذين يؤمنون بأنّ مستقبل العرب لا يصنعه سوى العرب
لنبدأ في العراق
هناك جهد عظيم لا يتوقّف ليل نهار منذ الاحتلال الأميركي للبلاد من أجل تفتيت سلطة الدولة عبر تعدّد مصادر السلاح ووجود ميليشيات عابرة للقانون والدستور وسلطة الدولة، وتجاوز حصريّة حمل السلاح بالدولة، وانتشار الفساد السياسي عبر النفوذ السياسي للطوائف والميليشيات وسيطرتها على مفاصل البلاد.
ربّما يكون ما تعانيه البلاد هناك منذ انتخابات البرلمان الأخيرة ومحاولة تشكيل حكومة هو أعمق دليل على قوّة مشروع اللادولة في العراق.
كلمة مصطفى الكاظمي يوم الثلاثاء الماضي عن مخاطر عدم حصريّة السلاح في يد الدولة خير برهان على عمق الأزمة.
تحدّث الكاظمي عن “محاولة العديد من القوى تقويض سلطة الدولة وخرق القانون” طالب بضرورة “محاولته الحفاظ على النظام والدولة والدم العراقي” وذكّر بأنّه “طالما حذّر من ضرورة وضع السلاح تحت سيطرة الدولة”.
هنا هدّد الكاظمي بالاستقالة بعد عدم قدرته على تحقيق الحدّ الأدنى من مشروع الدولة.
حينما يُصبح السلاح أو المال أو التدخّل السياسي الخارجي أقوى من سلطات الدولة، تُصبح أيّ سلطة وطنية عاجزة عن لعب دورها السياسي والسيادي في البلاد.
ماذا عن لبنان؟
في لبنان تستطيع الميليشيا الطائفية تعطيل القانون والدستور.
تستطيع الميليشيا أن تُعرقل تشكيل أيّ حكومة وأن توقف إصدار أيّ قرار.
في لبنان تحسم الميليشيا تسمية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وتوفّر الأغلبية العددية اللازمة لتسمية رئيس البرلمان أو سنّ القوانين.
يستطيع مَن لديه 100 ألف مقاتل و120 ألف صاروخ ومؤسسات مالية واجتماعية خاصّة به خارج إشراف أو سيطرة الدولة، أن يفرض إرادته في مناطق جغرافية خاصة به وكأنّها خارج سلطة الوطن.
فكرة مركزية القرار في لبنان معدومة ما دامت لا تأتي من مؤسّسات الدولة الرسمية.
يصدر القرار في لبنان حينما يحظى بالرضاء الكامل، وتتمّ صناعته حرفيّاً داخل مؤسّسات الأحزاب والميليشيات، ثمّ يتمّ الدفع به إلى الحكومة من أجل وضع اللمسات الأخيرة وإقراره، ثمّ إلى الرئيس للتوقيع.
مؤسّسات الدولة هي “الديكور السياسي”، لكنّ القرار الحقيقي يأتي من مراكز قوّة السلاح والمال غير الشرعية.
نصل إلى سوريا
في سوريا تتّخذ سيطرة الميليشيات شكلاً مغايراً.
في دمشق يسيطر الحكم على قصر الحكم والبرلمان والبنك المركزي، وعدّة أجهزة أمنيّة تدير الأمن لكنّها لا تسيطر عليه.
منذ الحرب الأهلية السورية، فَقَد الحكم القدرة على الإدارة والسيطرة على المفاصل الأمنيّة، وفَقَد الحكم الامتياز الحصري الذي من المفروض أن تملكه الدولة بحكم الدستور والقانون لممارسة العنف المشروع.
استراتيجياً هناك جيوش أربع دول على الأقلّ منذ سنوات على الأراضي السورية وداخل خارطة الوطن الذي يُعتبر من أقدم حضارات العالم، إضافة إلى ميليشيات من دول عديدة يقودها الحرس الثوري الإيراني، أبرزها حزب الله من لبنان وألوية عراقية وربما غيرها.
على أرض سورية الجيش الروسي، والحرس الثوري الإيراني، والجيش التركي الرسمي، وقوات التحالف الغربي المشكّلة خصّيصاً من أجل الملف السوري.
على أرض سوريا ميليشيات إرهاب تكفيري، وقوى معارضة، وقوى مناطقية وعرقية تجاوزت 800 فرقة وجماعة.
من هنا تصبح ممارسة الدولة في سوريا لسلطاتها وسيادتها أكذوبةً وأمراً مستحيلاً.
هكذا تبدو الدولة ممثّلةً بالنظام وكأنّها طرف زائر في ظلّ الوجود العسكري والأمنيّ الروسي والإيراني والتركي والميليشياوي.
تسيطر الدولة في سوريا على بعض أجزاء من العاصمة وريف دمشق فقط.
تدير روسيا قواعد عسكرية تُشرف عليها “الشرطة العسكرية للجيش الروسي ولا يحقّ لأيّ جنسيّة بما فيها قوات الجيش الرسمية السورية التدخّل فيها على أيّ مستوى من المستويات”.
في سوريا معسكرات للحرس الثوري وقوات “كاظميون” و”زينبيون” وحزب الله يملكون السيطرة الكاملة والوحيدة والمنفردة عليها.
تدير تركيا منطقة كاملة تُستخدم فيها العملة التركية، وتتمّ فيها الممارسات التجارية وتبادل البضائع والمعاملات الرسمية باللغة التركية، ويحفظ الأمن فيها الجيش التركي وكأنّها منطقة من تركيا داخل الأراضي السورية.
في سوريا مناطق نفوذ كرديّة تنتشر فيها قوات كردية تسنّ القوانين وتحفظ الأمن، ويتمّ فيها التحضير لإنشاء جزء جغرافي كردي مستقلّ تماماً عن سيادة الدولة الوطنية.
يبدو رئيس الجمهورية في سوريا وكأنّه، في حقيقة الأمر وطبقاً للواقع، رئيس العاصمة دمشق وبعض أطراف بعض المدن القريبة فقط!
اليمن: حتمية الجغراسيا
يُعتبر اليمن من ناحية الجغرافيا السياسية واحداً من أصعب وأعقد التضاريس الجغرافية التي تمنع قيام تجانس سكاني ممتد، وتُعطى السيطرة الاستراتيجية فيه لمن يسيطر على الجبال والمرتفعات ومنافذ السواحل.
عاش اليمن تحت الحكم العثماني من العام 1539 حتى 1634 من دون أن تستقرّ للعثمانيين السيطرة طوال تلك الفترة على المرتفعات الشمالية التي تنطلق منها الهجمات الدائمة من أنصار الأئمّة، بينما انحسرت سيطرتهم في مناطق “زبيد والمخا”.
في فترة حكم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح فُرضت بقوّة السلاح سيطرة أهل الشمال على أهل الجنوب.
لم يكن هدف علي صالح السيطرة بهدف التوحيد، لكن كان هذا العسكري السابق يريد تنصيب نفسه إماماً بلقب رئيس جمهورية، وحوّل نفسه إلى أكبر رجل أعمال يمارس الفساد السياسي مستفيداً هو والحلقة القريبة منه من المال العامّ.
عرض نفسه في أول الأمر على الملك فهد وأقسم له بالولاء، ثمّ باع الخليج بالتآمر مع صدّام في غزو الكويت، ثمّ عاد وبكى تحت أقدام الملك فهد طالباً الصفح، وعندما انقطع “الدعم السعودي والخليجي له شخصيّاً” استغلّ هذا الأمر في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز وفتح الباب بقوّة للمال والنقود وفكر التتبيع السياسي لإيران.
بعدها قفز أنصار “الفكر الحوثي” من 50 ألفاً إلى ما يجاوز خمسة ملايين، وتحوّلت الحوثيّة من دعوة مذهبية سلميّة إلى حزب سياسي وميليشيا يشبه نظامها نظام الحرس الثوري. وأعلن المذهب الزيدي للحركة الولاء الكامل لولاية الفقيه، وأصبح الولاء لطهران أهمّ من الولاء للوطن.
المشتركات اللادولتية
المشترك في كلّ مشروعات “اللادولة” في العالم العربي هو الدور التآمري الواضح للدول الشرق أوسطية غير العربية (إيران، تركيا، إسرائيل).
تمثّل الدولة الوطنية القويّة تهديداً صريحاً ومباشراً للمشروع الفارسي الطائفي الإيراني، والمشروع العثماني المرتدي رداء الإسلام السياسي، والمشروع الصهيوني الإسرائيلي الذي يهدف إلى سيادة الدولة العبرية عبر السيطرة الاقتصادية والدرع النووي والتقدّم العسكري.
ثلاثتهم مشروعات ترى وجود تكتّل عربي عصري قويّ متماسك تهديداً لها.
ثلاثتهم يرون أنّ الغنيمة الكبرى هي المال والنفط والثروات العربية والموارد الطبيعية والموقع الاستراتيجي المنفتح على شرق المتوسط والبحر الأحمر ومنافذ التجارة العالمية من قناة السويس إلى باب المندب.
ثلاثتهم يشجّعون كلّ المشروعات التي تقسّم الأنظمة والشعوب العربية أفقياً وعامودياً وطبقيّاً ودينيّاً وطائفياً ومذهبياً.
بالطبع لا تقع مسؤولية أيّ مؤامرة بالدرجة الأولى على صاحب المؤامرة، لكن تقع على من يقبل طواعية بتقديم رأسه على طبق من ذهب من خلال المشاركة المجّانية في الانقسام والتشرذم من أجل مصالح طائفية ومصالح فساد.
الاستقواء بأيّ مشروع غير عربي يعني ببساطة انتحار حلم السذّج سياسياً، أمثالي. هؤلاء الذين يؤمنون بأنّ مستقبل العرب لا يصنعه سوى العرب.
تعطيل الحكومات… لهدم الدول
باختصار شديد لا مشروع عربياً حقيقياً من دون الحفاظ على مشروع الدولة الوطنية في المنطقة.
من هنا ليس من قبيل الصدف في السنوات الأخيرة أن تنشأ محاولات لتعطيل تشكيل الحكومات والمؤسّسات في كلّ من لبنان والعراق والسودان وفلسطين وتونس.
وليس مصادفة أن تأتي محاولات إسقاط مشروع الدولة في مصر والسودان وتونس وسوريا والجزائر والعراق تحت دعوى الربيع العربي.
وليس مصادفة اكتشاف خلايا من جماعات الإسلام السياسي في كلّ من السعودية والكويت والإمارات وتونس ومصر تهدف إلى إسقاط الحكم.
إقرأ أيضاً: 14 سبباً لسقوط الحكّام والأنظمة!
من هنا تصبح مقولة الفيلسوف فرانسيس بيكون شديدة الأهميّة الآن حينما نتذكّرها في هذا المقام.
قال بيكون إنّ “من أخطر الأمور على أيّ دولة الخلط بين المفاسد الشخصية وبين مصالح الدولة العليا”.
وقبل أن نتّهم غيرنا بالتآمر أو بتحمّل مسؤولية عن المخاطر والصراعات والانهيارات التي تعيشها دولنا يجب أن نقول إنّ “الظلم والفقر هما سببان رئيسيان لانهيار أيّ دولة وسقوط أيّ حضارة على مرّ التاريخ”.
إنّه تلاقي مصالح بين فكر ميليشياوي طائفي محلّي مرتبط بقوى إقليمية غير عربية تخدم مصالح دولية في عالم مرتبك يصارع من أجل إعادة تشكيل مراكز النفوذ.