نتساءل نحن أبناء المنطقة العربية: من أين أتت الفوبيا العالمية من شعوبنا ودولنا ومجتمعاتنا؟ من أين تنبع؟ ومَن يرفدها بالتأكيدات الأيديولوجية ؟ ومن يموّلها؟
كانت الإجابة في السنوات الأخيرة أنّ التنظيمات السنيّة المتطرّفة هي السبب. لكن لنوسّع إطار الصورة قليلاً.
منذ أشهر قليلة نشرت وزارة الخارجية الأميركية تقريراً بعنوان “أعمال الإرهاب والاغتيالات الإيرانية في الخارج”، الذي كشف أنّه “بعد 1979، نفّذت إيران أكثر من 360 اغتيالاً في أكثر من 40 دولة في العالم”.
وفق التقرير، تستخدم طهران الاغتيالات والقتل “لتوطيد واستمرار حكم الملالي المذهبي في إيران، بحيث لا يسمح نظام المرشد بوجود أيّ معارضة داخل حدود البلاد وخارجها”. فلا يريد نظام طهران “أن تتحوّل الدول الأخرى ملاذاً آمناً لخصومه من إيرانيّين أو أجانب”. وهو يستفيد من تقاعس الغرب لضمان استمراريّته، فيمارس “الإرهاب” ويوسّع عمليّاته مستهدفاً المسؤولين وأبناء الدول الغربية ذاتها.
خلال أكثر من 4 عقود، نفّذت طهران “عمليّات إرهابيّة” ضدّ خصومها في معظم الدول الأوروبية وأميركا اللاتينية وشرق آسيا وتركيا ودول الشرق الأوسط، وصفّت العشرات من المعارضين والمنتقدين السياسيين لها. أمّا المستغرَب فهو حجم العمليات التي سعت طهران إلى تنفيذها داخل الولايات المتحدة، سواء أكان ضدّ مسؤولين حاليّين أو سابقين أو مدنيّين
يعتمد نظام الملالي على القتل الفردي والجماعي كنهج ثابت في سياسته يحقّق من خلاله مآربه السياسية، ويعتبره “مبرَّراً دينياً ومذهبياً”
لائحة بأبرز الاغتيالات
منذ تسلّم الخميني السلطة تكاثرت العمليّات في أميركا. ألقت السلطات القبض على خلايا إيرانية كانت تسعى إلى اختطاف أو تصفية معارضين إيرانيين داخل أميركا من الرجال والنساء.
هنا لائحة بأبرز الاغتيالات التي نفّذها نظام الملالي:
– في 1979 بدأت السلسلة باغتيال شهريار شفيق، ابن شقيقة الشاه محمد رضا بهلوي في باريس.
– في 1980 اغتالت طهران علي أكبر طبطبائي في الولايات المتحدة بسبب حضوره الإعلامي ونشاطه وتنظيمه تحرّكات المعارضة. وما يزال قاتله داوود صلاح الدين يعيش بأمان داخل إيران، لدرجة أنّ المخرج الإيراني محسن مخملباف استفاد من وجود صلاح الدين هناك ليؤدّي دوراً في فيلمه “رحلة إلى قندهار”.
– كان منصور فرهنج (أستاذ ودبلوماسي سابق شغل منصب ممثّل إيران في الأمم المتحدة) أحد أهداف حكم المرشد بعدما وضعه على لائحة الاغتيالات. لكن حتّى الآن لم تستطع أيادي الملالي أن تصل إليه.
– في 2009، استأجرت طهران عميلاً في كاليفورنيا لاغتيال أحد أبرز المعارضين جمشيد شارمهد، وعندما لم يُكتب النجاح للعمليّة قام عملاء طهران بخطفه العام الفائت ونقلوه إلى إيران حيث يواجه حاليّاً خطر الإعدام.
– في 2011 حاول عنصر المخابرات الإيرانية منصور أرباب سير مع زميله غلام شكوري اغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، وحُكم عليهما بالسجن 25 عاماً.
– في 2018 اعتقلت قوات الأمن الأميركية إيرانيَّيْن هما أحمد رضا محمدي وماجد غرباني بتهمة التجسّس وجمع معلومات عن مواطنين أميركيين من أصول إيرانية أعضاء في منظمة “مجاهدي خلق” ضمن استراتيجية استدراج المعارضين إلى بلدان مجاورة لإيران (كالعراق وتركيا) لاختطافهم ونقلهم إلى طهران.
– في 2021، وفي خضمّ مفاوضات فيينا النووية ولإسكات الصحافيين وترهيبهم، حاولت طهران اختطاف الصحافية الإيرانية مسيح علي نجاد في نيويورك، مظهرة بذلك أنّ “إرهاب الدولة”، وفق التصنيف الأميركي، لا حدود له، ومؤكّدة أنّ نظام المرشد لا ينوي التخلّي عن خططه لتنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي الأميركية.
– في 2022 حاول أحد أعضاء الحرس الثوري شهرام بورصفي اغتيال جون بولتون في واشنطن، ضمن مخطّطٍ إيراني لاغتيال آخرين، من بينهم مايك بومبيو ومارك إسبر خلال ولايتيهما، كشفت عنها السلطات الأميركية مؤخّراً. ونتذكّر الفيلم الكرتوني عن استهداف الرئيس السابق دونالد ترامب في ملعب الغولف.
أخيراً وليس آخراً (طالما لم يوضع حدّ جذري لنظام طهران)، وفي وضح النهار وأمام أعين المخابرات الأميركية والشرطة الفدرالية، قبل أسبوع، طُعن الكاتب البريطاني سلمان رشدي في نيويورك على يد أحد أنصار حزب الله هادي مطر، تنفيذاً لفتوى الخميني الصادرة إثر خسارة الأخير لحربه مع العراق. يومها حاول الخميني استباق الشارع السنّيّ عامّة بالقول إنّ إيران “هي الحامية الأولى لمشاعر المسلمين”. لكنّ فتوى الخميني لم تصدر دفاعاً عن مشاعر المسلمين، بل بدافع الانتقام الشخصي من الكاتب وروايته التي وصفت الخميني بـ”الملاك الدموي”.
غير أنّ المفارقة في محاولة اغتيال سلمان رشدي هو تحوُّلها إلى مادّة سجال سياسي داخل أميركا بدلاً من أن تكون محلّ إجماع على إدانة إيران التي شجّعت على الجريمة. فالحزب الديمقراطي (والتيار اليساري) الذي وقف مع سلمان رشدي في العام 1989 غيَّر موقفه وأخذ يدعو “متواطئاً” لكسب أصوات الأقليّات إلى ضرورة احترام آراء هذه الفئات. بالمقابل أصبح اليمين أقرب إلى حماية آراء سلمان رشدي من زاوية معاداة الهجرة بعدما تغزّل بايدن قبل أسابيع بفكرة “الإمام المغيّب” الذي أصدر مَن يُسمّى “نائبه الزمني”، وكان يومئذٍ الخميني، فتوى القتل العابرة بإرهابها للقارّات.
هكذا يبدو أنّ إسماعيل قاآني كان يعني كلّ كلمة قالها في الذكرى الأولى لاغتيال قاسم سليماني مخاطباً المسؤولين الأميركيين: “تأكّدوا أنّ من الممكن أن يكون لنا أشخاص داخل بيوتكم”. فذلك يؤكّد أنّ “إرهاب الدولة” الإيراني ليس فقط تهديداً للمعارضين السياسيين لحكم الملالي، بل هو أزمة دوليّة مزمنة وواسعة الانتشار تتعلّق بعزم إيران ومتابعتها لإرهاب الدولة الذي يجسّد كلّ أشكال الدولة المارقة.
كيف يجرؤ نظام الملالي على الحركة داخل الولايات المتحدة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من العودة إلى الازدواجيّات داخل الأروقة السياسية الأميركية واللوبي الإيراني الفاعل هناك. يجد نظام طهران ارتياحاً في التخطيط والتنفيذ لاغتيالات من دون خوفٍ من عواقب تلك السياسة، ما دام يجد من يدافع عنه في أروقة القرار الأميركي.
يعتمد نظام الملالي على القتل الفردي والجماعي كنهج ثابت في سياسته يحقّق من خلاله مآربه السياسية، ويعتبره “مبرَّراً دينياً ومذهبياً”. لذلك أنشأ الميليشيات الشيعية، ودعم الجماعات السنّيّة المتطرّفة التي تحترف الإرهاب والتفجير والتدمير والإبادة، وعمد إلى تنفيذ الاغتيالات، لا في العراق ولبنان وسوريا فحسب، بل وفي بلجيكا وهولندا وتركيا وباكستان والعديد من دول العالم، وكان منها في فرنسا اغتياله رئيس الوزراء شاهبور بختيار، واللواء غلام علي أويسي الحاكم العسكري الأسبق لطهران، والضابط البحري شهريار شفيق ابن أخت الشاه.
تتحرّك الذئاب الإيرانية المنفردة أينما اقتضت مصلحة الملالي ذلك، وتنشد بالاغتيالات والقتل والتفجير “سلام فرمانده”، حتى في أميركا وأوروبا، لأنّ مفعول الفتاوى الأيديولوجية أقوى من مسكّن فيينا.
إقرأ أيضاً: “الذئاب المنفردة”… رواية رشدي الجديدة
لا عجب من الفوبيا العالمية منّا ما دام هناك من يغذّيها ويزيدها باطّراد. حكم الملالي في طهران له مصلحة عميقة بوجودها ونشرها في العالم. يبني لها أرضيّة صلبة وبيئة مناسبة ويرافقها بتغطية إعلامية.
… أما تاريخ علاقة إيران مع الجماعات السنّيّة المتطرّفة، فنعود إليها في مقالات لاحقة.
*كاتب لبناني مقيم في دبي