تفيدنا مذكّرات الرئيس صائب سلام أنّ عمله السياسي الطويل حَكَمته مشكلتان:
– تنافُسُهُ مع زملائه من السياسيين السُنّة على رئاسة الحكومة.
– وصراعه مع رؤساء الجمهورية على الصلاحيّات.
الواقع أنّه بعد استشهاد الرئيس رياض الصلح تقدّم الرئيس سلام على المنافسين في الخمسينيّات، وبرز في اضطرابات العام 1958 ضدّ الرئيس كميل شمعون، وعادت المنافسة مع الرئيس رشيد كرامي منذ الستينيات. أمّا كلّ الآخرين حتى الثمانينيّات فقد ظلّوا بالنسبة إلى سلام بدلاً عن حاضرٍ طاغ! إذن المشكلة الرئيسية عنده صارت: الصراع على الصلاحيّات مع رؤساء الجمهورية وفي طليعتهم الرئيس فؤاد شهاب. الدستور الأوّل أو دستور الاستقلال كان يعطي رئيس الجمهورية صلاحيّات شبه مطلقة، فقد كان الدستور رئاسياً. وقد تناول الصراع كلّ شيء، ومن الجوهر إلى المظهر: طريقة الجلوس، وشرب السيجار، وطريقة السير معاً، وتعيينات الموظّفين والسفراء والعلاقات الخارجية، وتمثيل لبنان في المؤتمرات والمناسبات. والرئيس سلام مُصرٌّ على ناصريّته ويحصر المشكلة في التنافر بينه وبين سفير مصر الشهير عبد الحميد غالب. بينما كان المعروف أنّ شهاب ومحيطه هم حلفاء العهد الناصري.
?
لماذا هذا الإصرار على التفاصيل؟
لأنّه بعد العام 1970، تاريخ مجيء سليمان فرنجية حليف سلام إلى الرئاسة، صارت أكثر متانة علاقات رؤساء الجمهورية بسورية والرئيس حافظ الأسد. وعندما اضطربت أيّام الرئيس أمين الجميّل، ما استخدم السوريون ضدّه رؤساء الحكومة (وحتى رشيد كرامي)، بل استخدموا نبيه برّي ووليد جنبلاط. أمّا منذ الياس الهراوي حتى ميشال عون اليوم فقد عادت علاقات رؤساء الجمهورية بسورية وظلّت أفضل من علاقاتهم برؤساء الحكومة!
?حزب السلاح هو أكبر الرابحين في إحلال اللادولة والتوتير الطائفي، واللبنانيون أو معظمهم هم الخاسرون، بينما نالت البهدلة من كلّ المؤسّسات
?وربّما يظنّ ظانٌّ أنّ الأمر تغيّر بعد دستور الطائف الذي جعل السلطة في مجلس الوزراء مجتمعاً، وجعل رئيس مجلس الوزراء مسؤولاً عن سياسات الحكومة. لا، ما تغيّر شيء من ذلك على الرغم من البروز الساطع للرئيس رفيق الحريري. ما استطاع الرئيس رفيق الحريري تطبيق الطائف لهذه الجهة، وليس بسبب مقاومة السوريين لذلك فقط، بل وبسبب المعارضة شبه الشاملة لذلك من جانب السياسيين المسيحيين والرأي العامّ المسيحي، وقد كانوا يعتبرون (وما يزالون) أنّ دستور الطائف انتقص من صلاحيات رئيس الجمهورية بشدّة، وأنّه لا بدّ من استعادتها بالمقاطعة (انتخابات العام 1992) أو بالاستعانة بالسوريين، والآن بحزب السلاح. ولتقوية جانبه (حتى في عمليّات إعادة الإعمار) لجأ الحريري إلى علاقاته العربية (السعودية ومصر)، وعلاقاته الدولية (فرنسا) وإمكانياته الذاتية في صناعة الحلفاء المؤقّتين في سورية ولبنان.
?على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ثمّ تحالف الراديكاليّتين الشيعية (حزب الله) والمسيحية (ميشال عون) في كنيسة مار مخايل عام 2006 جرى الإطباق بالفعل على تحطيم رئاسة الحكومة: حزب الله مهتمّ بالسيطرة على القرار السياسي في البلاد (في مواجهة السلطة التنفيذية التي تتمثّل في رئاسة الحكومة)، وميشال عون جنرالاً وزعيماً للتيار الوطني ورئيساً للجمهوريّة مُصِرٌّ قولاً وعملاً وسياسات على ضرب رئاسة الحكومة (والسُنّة)، وتارةً باتّهامهم أنّهم آكِلو صلاحيّات الرئاسة، وطوراً باتّهامهم أنّهم إرهابيون!
الحكومة التي لا “تحكم”
ما استطاع الزعماء السنّيّون (وأبرزهم الرئيس سعد ابن رفيق الحريري) الصمود بعد انتخابات العام 2009 التي شهدت آخِر انتصارات الحريري وقوى 14 آذار التي تصدّعت بسرعة. وإنّ إسقاط الحكومة الأولى لسعد الحريري عام 2011، واستمرار الاغتيالات، وأحداث العالم العربي من حول لبنان، كلّ ذلك أدخل رؤساء الحكومة وأهل السُنّة في كابوس مستمرّ حتى الآن.
ما نفع قيام الحريري بتعليق الخصومة مع الحزب، وأضرّ كثيراً ذهابه باتّجاه الجنرال عون لاسترضائه والتحالف معه لتولّي رئاسة الحكومة في عهده الميمون. فلا حزب السلاح غيّر من استراتيجيّاته ولا عون وصهره توقّفوا عن اختراق الدستور والاستيلاء على أجهزة الدولة، والإساءة (مع الحزب) إلى علاقات لبنان العربية والدولية.
?على مشارف انتخابات الرئاسة بعد سنواتٍ ستٍّ جرداء، والحكومة قائمة وغير قائمة يحسُنُ السؤال: مَنْ الذي “تبهدل” أكثر: رئاسة الحكومة أم رئاسة الجمهورية؟! في الحقيقة، ووسط الانهيار المتمادي، كلّ المؤسسات الدستورية والعامّة: الرئاسة والحكومة ومجلس النواب والقضاء وحاكميّة المصرف المركزي والمصارف وصلت إلى أقصى دركات التردّي، في نظر المواطنين. هذا لأنّ السلطة الإجرائية رئيساً ووزراء هي التي تقع في الواجهة، ولذلك ينصبًّ عليها السخط العامّ، ويتناول على وجه الخصوص بعض الوزراء مثل وزير الطاقة ووزير الاقتصاد.
?في حالتها الحاضرة ما عادت رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء يمثّلان شيئاً محسوساً للّبنانيين. فالعونيون اخترقوها من الوريد إلى الوريد، وحزب السلاح أقام دولته الخاصّة التي تكاد لا تتواصل مع دولة الكيان اللبناني ولا مع سلطتها التنفيذية. ولنتأمَّلْ ما حدث أمس الأحد في 31/7/2022، فقد وصل الوسيط الأميركي آموس هوكستين لمتابعة التفاوض في ملف الحدود البحرية. فبِمَن اجتمع أوّلاً؟ اجتمع بموظف أمنيّ كبير يمثّل الحزب المسلّح تارةً، وكلّ السلطات طوراً، وبدون دستور، كما يُقال!
?
الحزب واستعمال عون
إنّما لندع هذا الهمَّ إلى الهمّ الأكبر: همّ الرئاسة. رئيس الجمهورية صار مستقبله وراءه، لكنّه حريصٌ على الوريث. وهو لا يجدّ ويجتهد في جمع أنصارٍ له من النواب، بل يترك أمره للحزب وما يرتئيه. فأين هي مقولة “الرئيس القويّ” الذي أقنعونا بمواصفاته عام 2016؟ البطريرك بشارة الراعي هو أوّل من خرج على هذه المقولة، ويريد رئيساً بمواصفاتٍ مختلفة، وحكومة بمواصفاتٍ مختلفةٍ أيضاً.
?لقد استخدم الحزب المسلّح الجنرال والتيار الوطني وجبران باسيل لاستكمال ضرب رئاسة الحكومة والسُنّة. وقد اغترّ المسيحيون في سياق الصراع على الرئاسة بمقولة الرئيس القوي فماشوا الحزب ومرشّحه. ثمّ بدأ تصدّي البطريرك الراعي لهم قبل سنتين، بعدما انخفض سقف البواسل وما عادوا مفيدين. قال إنّه يرفض السلاح غير الشرعي، ويرفض توريط لبنان في الحروب وسياسات المحاور، ومن أجل ذلك يريد الحياد للبلاد وانزعج منه الحزبيون وحتى باسيل. والآن جاءت الفرصة السانحة لضرب الموارنة كما ضربوا السُنّة في قصّة المطران موسى الحاج.
حزب السلاح بهذه الطريقة يريد الإثبات أنّه ليس هناك طائفة معصومة ولا مَن يحزنون، فتبقى هناك طائفة واحدة مميّزة في البلاد، ويكسرون شوكة سياديّات خطاب البطريرك الراعي الذي يتمسّك بالثوابت، ويدعو إلى حياد لبنان من أجل حمايته واستقراره وأمنه. هي البهدلة للموارنة كما تبهدل السُنّة، الأمر الذي اضطرّ البطريرك الراعي إلى التذكير بأنّ الموارنة طائفة تأسيسية للكيان. تماماً كما كان السُنّة يشكون أنّهم طائفة اللحمة والتوازن والاعتدال، ثمّ إذا هم أهل الإرهاب! ?
بعد فوات الأوان ينذعر الرئيس القوي لِما حدث للمطران الحاج وقد كان يحسب أنّه حامي حمى المسيحيين في لبنان، أمّا في المشرق فبالتعاون مع بشّار الأسد وحسن نصر الله!
إقرأ أيضاً: صائب سلام.. وروح بيروت التي حفظت لبنان
?وهكذا فإنّ البهدلة التي نالت أكثر ما نالت من رئاسة الحكومة ومن السُنّة، تُرخي الآن بثقلها على رئيس الجمهورية وعلى طائفته، بحيث قد يُسمَّى رئيساً إنّما بدون رئاسة، وإلى حكومة لا تحكم، وكيانٍ كرهه مواطنوه.
?حزب السلاح هو أكبر الرابحين في إحلال اللادولة والتوتير الطائفي، واللبنانيون أو معظمهم هم الخاسرون، بينما نالت البهدلة من كلّ المؤسّسات وفي طليعتها الرئاستان: رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة.
فلِمَن أُعطي “مجد لبنان” أخيراً؟!