صائب سلام.. وروح بيروت التي حفظت لبنان

مدة القراءة 7 د

صدرت أخيراً مذكّرات الرئيس صائب سلام (1905-1999) في ثلاثة مجلّدات. ولستُ من المتابعين لِسِير السياسيّين بقدر متابعتي لِسِيَر الفلاسفة والمفكّرين في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. لكنْ بالقدر القليل الذي أعرفه من مذكّرات السياسيين اللبنانيين وسِيَرهم، مثل بشارة الخوري وكميل شمعون وسامي الصلح وفؤاد بطرس وسيرتَيْ باتريك سيل وأحمد بيضون للرئيس رياض الصلح، أعتبرها فريدةً من نوعها لجهة إفصاحها عن حقبةٍ طويلةٍ من تاريخ لبنان والمشرق العربي الحديث، طبعاً من وجهة نظر الرئيس سلام، ولجهة نموذجيّتها باعتبارها سيرةً لسياسيٍّ لبنانيّ محترف مارس العمل السياسي المؤثّر بشغفٍ كبير عزّ نظيره لأكثر من خمسين عاماً. ولذلك فهي تستحقّ القراءة والمراجعة والمقارنة من أربع نواحٍ:

الأولى: أصول آل سلام بين بيروت ودمشق وفلسطين وتأمّلها في سياق سياسات الأعيان (بحسب تعبير ألبرت حوراني) في مرحلة التحوّلات الخطيرة بين العهدين العثماني والفرنسي.

الثانية طبائع الأفكار السائدة عن السياسات الصالحة للدول بين المحلّي والوطني والقومي بعد الحرب العالمية الثانية.

الثالثة: الأدوار التي كان السياسيون اللبنانيون (والعرب) يتصوّرونها لأنفسهم في بلدانهم ومع الخارجَيْن العربي والدولي.

الرابعة: كيف كانت الزعامات السياسية تتشكّل في حقبة ما قبل الأنظمة الشمولية (1930-1970)؟ وإلى ماذا آلت بعد انتهاء زمان العمل السياسي المفتوح؟ يملك لبنان في الأصل العديد من الخصوصيّات مقارنةً بالدول العربية المجاورة. بيد أنّ هناك أنماطاً متشابهة تتيح تجربة صائب سلام الطويلة (إذ عاصر الحقبتين) مراقبة ذلك كلّه من خلال مذكّراته، والوصول إلى استنتاجات مفيدة.

في الأربعينيات أكثر من الثلاثينيات من القرن الماضي بدأت النخبة السياسية اللبنانية الجدّية بالظهور، بدليل الاجتماع التدريجي على “جبهة” للاستقلال. وهكذا فإنّ روح المدينة بدأت تبلور فكرة “العيش المشترك”

روح المدينة

بيد أنّني في هذه المطالعة لن أتحدّث عن النواحي أو المناحي الأربعة، التي تستحقّ الدراسة المفردة فيما بعد، بل سأتحدّث عن أمرٍ خامسٍ عنوانه: “روح المدينة” في سيرة صائب سلام وعمله السياسي. وروح المدينة هذه لا تبدأ بالطبع في سيرة الرئيس سلام السياسية، بل في الجيلين السابقين عليه، وهو الذي بدأ بممارسة العمل السياسي خارج ظلّ والده في الأربعينيات من القرن العشرين. والذي أذهب إليه أنّ روح المدينة هذه، الباحثة عن التواصل والحوار واجتراح تدريجي لداخلٍ وطني جديد، إنّما بدأت مع رياض الصلح الذي كان قد مارس سياسات عربية نهضوية، واستطاع الانتقال بدون تغيّرٍ كبيرٍ في الوعي نحو سياسات لبنانية عاصرها صائب سلام في شبابه وكان شديد الإعجاب بها لأنّه عاشها في دارة والده ودُور الأعيان المسلمين والمسيحيّين الآخرين.

كنتَ تستطيع أن تكون مسلماً متشدّداً أو مسيحياً متشدّداً، وتصل إلى مركز سياسي مثلما حصل في حالتَيْ إميل إدّه وعبد الحميد كرامي. لكنّ رياض الصلح وصائب سلام بحثا دائماً عن التوسّط والاعتدال والشركاء السياسيّين المسيحيين. وهؤلاء الشركاء مسلمين ومسيحيّين كانت تغلب عليهم روح المدينة إلى هذه الدرجة أو تلك، وهي تعني البحث عن الجوامع المشتركة للوصول إلى مواقف جامعة.

لا يعني هذا أنّ الآخرين ما كانت عندهم روح المدينة المنفتحة، إنّما لم يتوافر فيهم بدرجةٍ كافيةٍ العامل الآخر: وجود الرسالة أو الموقف والفكرة. والمدينة كما تتيح التجاور والتحاور، تتيح أيضاً الاختلاف والاعتراف به بحيث لا يكون هناك تابعٌ ومتبوع. ولذلك صار رياض الصلح وصائب سلام زعيمين ولم يبقيا وجيهين وحسب. فهما يسعيان، وبروح المدينة، إلى اجتراح شراكات سياسية وشخصية ولا يقبلان التبعية أو تنتفي الشراكة.

 

روح بيروت

في الأربعينيات أكثر من الثلاثينيات من القرن الماضي بدأت النخبة السياسية اللبنانية الجدّية بالظهور، بدليل الاجتماع التدريجي على “جبهة” للاستقلال. وهكذا فإنّ روح المدينة بدأت تبلور فكرة “العيش المشترك” التي صنعت الميثاق الوطني. يتحدّث البعض عن الفوارق الثقافية، لكنّ هذا غير صحيح. فقد كان الآتون إلى بيروت للعمل السياسي، سواء أكانوا مسيحيين أو مسلمين، من خرّيجي الجامعات الغربية. ولأنّ المسلمين (المثقّفين) كانوا غير راضين عن طريقة قيام الكيان، فقد تأخّروا عن الدخول في السياسة أو الإدارة، والذين دخلوا فيهما من المسلمين كانوا تابعين للإدارة الفرنسية أو صنائعها. فلمّا أقبل مثقّفو المسلمين على العمل السياسي في الدولة الوطنية الناشئة وقد صارت بيروت هي الملتقى، ما تركوا عروبتهم، بل أقبلوا على الكيان والصيغة بكامل شخصيّاتهم، وكان على المسيحيين العقلاء أن يعرفوا أنّ العهد لم يعد عهد المتصرفيّة، وأنّ زملاءهم المسلمين أنداد وشركاء. كما كان على المسلمين أن يعوا الوضع الجديد وبروح المدينة أيضاً بدون تابعٍ ولا متبوع.

صائب سلام يقول إنّ رياض الصلح كان سياسيّاً محنّكاً وعنده عصبة إعلامية من المسيحيين والمسلمين، لكنّه لا يتبع أحداً ولا يخشى أحداً، وعندما استُشهد ومن ضمن رثائه له وفجيعته به يقرّر أنّ تجربته الوطنية نموذج يُحتذى وليتها طالت أكثر. وإلى ذلك فهو يعتبر الرئيس بشارة الخوري من ضمن نخبةٍ جديدةٍ بين المسيحيين ذوي الوعي الجديد بالعيش المشترك، وبالميثاق الوطني الجامع. وعلى كثرة انتقاده لزملائه من السياسيين المسلمين والمسيحيين ينجو من نقده صديقه على مدى العمر نسيم مجدلاني لأنّ روح المدينة الهادئة والمنفتحة غلبت عليه.

روح بيروت الأصيلة هي روح التواصل والحوار والعيش المشترك وندّيّة الشراكة في الحياة السياسية الوطنية. وقد كان رياض الصلح وصائب سلام يعتبران نزوعهما العربي قوّةً للبنان، وإلى ذلك كانا يريان أنّ هناك نخباً مسيحيةً جديدة تعاونت معهم من أجل الاستقلال، ولذلك فهناك حياة وطنية جديدة تتأسّس وتتطوّر تشارك في صناعتها المدينة التي تجمع الكلّ.

قرأت في سيرة باتريك سيل لرياض الصلح أنّه كان يعتبر نفسه بين الحافظين لعروبة لبنان ومن أجل مصلحة لبنان في محيطه. والفكرة نفسها نقرؤها عند صائب سلام أو هي صورته عن نفسه. لكن في مذكّرات صائب سلام أيضاً نقرأ أنّ المسلمين لديهم مسؤولية كبرى في طمأنة المسيحيين اللبنانيين في أمرين: أمر الاستقلال، وأمر حفظ النظام والصيغة مهما بلغت أعدادُ المسلمين. عروبة لبنان لدى سلام ليست عبئاً بل ميزة. والرئيس المسيحي للبنان ضمانةٌ للعيش المشترك والوحدة الوطنية.

هل هي شعارات؟

لدى رياض الصلح وصائب سلام وأقرانهما كانت قناعاتٍ ومواقف، بدليل الشعارات الثلاثة التي تمثّل خلاصة تجربة سلام السياسية: التفهّم والتفاهم (في العمل السياسي)، ولبنان واحد لا لبنانان (في الانتماء والعيش المشترك)، ولا غالب ولا مغلوب (في المماحكات الداخلية عام 1958).

هل هو كلامٌ قديمٌ بعد تجارب مؤسية في العقود الأخيرة؟

إقرأ أيضاً: مذكّرات صائب بك (2): جذور الاستشارات “الملزمة”.. و”أصل” الفساد

ليس الأمر كذلك. فبعد صعود الراديكاليّتين المسيحية والشيعية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وهما داعيتا نزاعٍ وقطيعة، ما حفظ اللحمة بين اللبنانيين غير هذا الفريق، فريق الوسطيّة والاعتدال والتوازن والشراكة. وهذا هو الأمر الذي نحن جميعاً في أشدّ الحاجة إليه اليوم. فوجود أهل السُنّة وعملهم وعيشهم في لبنان بالذات يحمل هذه الرسالة وتمارس هذا الدور في حفظ الدستور والطائف وقرارات الشرعية الدولية المتعلّقة بلبنان. وفي ذلك سرُّ بقاء لبنان، لأنّ السلام الوطني يرسو على قوّة التوازن وليس على تقلّبات توازن القوى!

فمتى ينهض فريق الميثاق الوطني لاستعادة دوره وواجبه؟!

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…