خلال شهر تشرين الأول، يطفىء الانهيار شمعته الثالثة، وسط تلكّؤ أصحاب القرار وتواطئهم وخلافاتهم العقيمة التي تحبس اللبنانيين في سجن الفقر والمرض والعتمة الشاملة، بسبب العجز أو التمنّع عن القيام بالإجراءات الإصلاحية الجذرية التي من شأنها أن توقف التدهور، أو الذهاب لاستخراج النفط وإنهاء حروب لبنان الكثيرة في كل الاتجاهات، بسبب سلاح حزب الله.
حتى الآن، الخطة الوحيدة التي يبدو أنّ السلطة اللبنانية تتّكل عليها، هي دولارات المغتربين الطازجة التي يتوقّع أن يحملوها معهم إلى لبنان خلال فصل الصيف. وهذه خطة مرحلية لتربح الطبقة السياسية مزيداً من الوقت، قبل أن ينفجر الوضع بشكل دراماتيكي ويطيح بالاستقرار مع نفاد احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة. أمّا غير ذلك، فلا يبدو أنّ ثمّة معالجات جذرية قادرة على انتشال اللبنانيين من القعر الذي أُلقتهم فيه الطبقة السياسية.
وحده الاتفاق مع صندوق النقد الدولي قد يخفّف من حدّة الارتطام الاجتماعي والاقتصادي ويُسهم في إعادة نهضة الوضع النقدي والاقتصادي بعد إقرار الإصلاحات المطلوبة بإلحاح من الدول المعنيّة بالملف اللبناني، وأبرزها فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وفي طليعة هذه الإصلاحات، خطّة التعافي الاقتصادي، إعادة هيكلة المصارف (يتردّد أنّ حاكم مصرف لبنان بصدد وضع ملاحظاته على النسخة الأخيرة من المشروع)، الكابيتال كونترول، السريّة المصرفية، وإعادة هيكلة الدين العامّ بعد توزيع الخسائر.
أكّد دبلوماسيون فرنسيون أنّ باريس لا تولي أهمية في الوقت الحاضر لأيّ طروحات من هذا القبيل، ونفوا أن تكون إدارتهم في صدد الإعداد لمؤتمر دولي يستضيف القوى اللبنانية على طاولة حوار موسّعة
لهذا، فإنّ الغرق في شغور حكومي بعد دخول حكومة نجيب ميقاتي مدار تصريف الأعمال، من شأنه أن يحول دون إقرار هذه التشريعات خلال أسابيع قليلة وتأخيرها أكثر. وهذا ما يخشاه المسؤولون في صندوق النقد، الذين يعتقدون أنّ الوضع اللبناني مقبل على مزيد من التردّي والتشظّي. ومن هنا كان الحرص على توقيع الاتفاق المبدئي عشيّة إجراء الانتخابات النيابية لتفادي الشغور المرجّح حصوله، ولفترة طويلة.
مؤتمر دولي؟
مع ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ السيناريو الفوضوي إذا ما وقع في حال لم يتمّ لجم تدهور سعر الليرة ومعها الاستقرار الاجتماعي، من شأنه أن يقود إلى مطارح تسووية ترتبط بالنظام السياسي ككلّ بحيث يتمّ جمع القوى اللبنانية إلى طاولة مستديرة برعاية دولية، يُرجّح أن تكون فرنسية، للنظر في كلّ القضايا العالقة، بدءاً بالاستحقاقات الداهمة، أي رئاسة الجمهورية، وصولاً إلى التعديلات الدستورية المطروحة على النقاش.
الأكيد أنّ التوصّل إلى “اتفاق كبير” سيتمّ على وقع التطوّرات الدولية من خلال تفاهم عابر للحدود اللبنانية، ومن شأنه أن يفتح صفحة جديدة في كتاب الأحداث اللبنانية، خصوصاً إذا وقع الاستحقاق الرئاسي في مستنقع الخلافات والفراغ الطويل، وهو ما يعني مزيداً من التدهور الذي قد يصبح غير مضبوط.
لكنّ هذا السيناريو لا يلقى تأكيداً من أيّ من الدول المعنية بالملف اللبناني، وفي طليعتها فرنسا. فقد أكّد دبلوماسيون فرنسيون أمام مسؤولين لبنانيين أنّ باريس لا تولي أهمية في الوقت الحاضر لأيّ طروحات من هذا القبيل، ونفوا أن تكون إدارتهم في صدد الإعداد لمؤتمر دولي يستضيف القوى اللبنانية على طاولة حوار موسّعة أسوة بما فعلته المملكة السعودية حين استضافت النواب اللبنانيين في مدينة الطائف قبل ثلاثة عقود.
إقرأ أيضاً: هوكشتاين للرؤساء الثلاثة: أريدُ جواباً مكتوباً
لا بل أكثر من ذلك، يشيرون إلى أن لا تأكيد رسمياً لزيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت في وقت قريب، مشيرين إلى أنّ تركيز باريس في الوقت الحاضر محصور بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لأنّ من دونه لن يتمكّن لبنان من الخروج من دوّامته، بل سيغرق أكثر في ويلاته. ويُلفتون إلى أنّ مشاورات السفيرة الفرنسية آن غريو في هذا الوقت مع المسؤولين اللبنانيين تركّز على ضرورة تشكيل حكومة في وقت سريع لإقرار الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي. وفي حال نجح لبنان في عبور دفتر شروط صندوق النقد، فإنّ الإدارة الفرنسية قد تعمل على إعداد مؤتمر ماليّ، يشبه مؤتمر سيدر، للحصول على بعض الاستثمارات الماليّة التي تعيد الثقة بالوضع اللبناني. أمّا غير ذلك فلن يتعدّى برنامج المساعدات الإنسانية الذي اتّفقت باريس عليه مع الرياض.