نواب الثورة “شاغبوا”… ونواب النظام “حَكَموا”

مدة القراءة 10 د

عمل البرلمان في دورته هذه لن يكون سهلاً. نكون أمام مزيد من المقارعات بين الأكثرية والمعارضة. فيما تحليل الأرقام سيكشف تلاعباً ودخولاً على خط التحالفات وخرقاً للفيتوات.

لم يلتزم بعض النواب بكلمات سرّ كتلهم، فخرجوا عليها بالتصويت للرئيس نبيه برّي ولنائبه، سواء من القوات أو من بين نواب التغيير أو المستقلّين. أمّا نواب الثورة فأمامهم مسيرة طويلة من المطابشة. إذ لم يسجّل هؤلاء حضوراً لافتاً، وقد لاذ غالبيّتهم بالصمت طوال الجلسة باستثناء بولا يعقوبيان ووضاح الصّادق ومارك ضو. وكان فراس حمدان نجم “ساحة النجمة” خارج القاعة، بصورته واضعاً يده على عينه احتراماً لذكرى من فقدوا عيونهم برصاص حرس مجلس النواب، وبدخوله أمام الحرس الذين تركوا شظية حديد في قلبه خلال مواجهات سابقة في “منازلات” 17 تشرين.

من المرفأ حيث وقع الانفجار وصل نواب التغيير سيراً على الأقدام إلى جلسة مجلس النواب. كان الوصول استعراضياً وتعبيرياً. رصدتهم وسائل الإعلام التي اصطفّ مندوبوها بالعشرات في الباحة، ملتزمين المساحة التي سُيّجت لهم.

انتهت جلسة أمس إلى اعتبار نواب التغيير والثورة أنّ نواب السلطة كانوا متشنّجين وخائفين بدليل أدائهم

بلباس “سبور شيك” وأحذية رياضية بيضاء غير مألوفة في هذا المبنى، دخلوا إلى كَمَن يكتشف عالماً جديداً. ثم وصل “التقليديون” المخضرمون. وبينهما تميّز النائب كميل شمعون الذي وصل بسيّارة جدّه الرئيس الراحل كميل شمعون، وهي تحمل الرقم 1000.

ترجّلوا من سياراتهم وأخذوا يلقون التحيات على إلإعلاميين وغيرهم ورجال الأمن. دخلوا معاً حلبة المصارعة النيابية. استعدّ كلّ فريق لمواجهة الفريق الآخر ناوياً تلقينه درساً. كيف لا والجلسة تُنقل مباشرة!

قرع “ناظر” البرلمان الجرس. دخل النواب كلّهم، وبدأت الحكاية. توزّعوا داخل القاعة مجموعاتٍ مجموعاتٍ. جلس التغييريون بمحاذاة بعضهم في الصفوف الخلفيّة يتداولون في ما بينهم. بدأت جلسة الانتخاب ووُزّعت الأوراق. صوّب رئيس السنّ آليّة التصويت: “الاقتراع يكون بكتابة الاسم والشهرة، على سبيل المثال لا الحصر: نبيه برّي”، فَعَلا الضحك.

 

نبيه بري.. ولقمان سليم

الجلسة التي انطلقت عاديّة حوَّلها عدد من النواب الجدد إلى معركة تصفية حسابات مع المرشّح نبيه بري لحظة فرز الأصوات. وقع سجال بين رئيس السنّ نبيه بري وعدد من النواب على خلفيّة رفضه قراءة الأوراق الملغاة. هرج ومرج، نواب علت أصواتهم، أوّلهم “بولا”، فرضخ برّي وأعاد قراءة الأوراق الملغاة، وبدأ الفرز: “نبيه بري، نبيه بري، نبيه برّي، العدالة لضحايا انفجار المرفأ (4)، العدالة للمودعين (1)، العدالة لشهداء قوارب الموت (2)، العدالة للقمان سليم (5)، نبيه برّي، العدالة لجرحى الثورة ضدّ مجلس النواب (2)، العدالة للبنان (1)، العدالة للنساء المغتصبات (1)، الإمام موسى الصدر (1)، العدالة رافعة الوطن (1)، لا أحد (1)، العدالة (1)، العدالة لمن فقدوا عيونهم من رصاصات مجلس النواب (1)”.

اقتراع خارج السياق القانوني والدستوري يُظهر الإصرار على التحدّي ويمكن تفهّمه لنواب جدد على اللعبة البرلمانية. لكن ما لم يمكن ترجمته هو تصويت نواب القوات لمصلحة “الجمهورية القوية” (19)، لتكون أصواتهم في جملة 40 ورقة ملغاة يضاف إليها 23 ورقة بيضاء.

عند فرز النتائج كانت المقارعة الأولى. فاز برّي بأكثرية 65 صوتاً. علا التصفيق مع دويّ إطلاق النار، فشكا النائب سامي الجميل: “دولة الرئيس ماشي القواص برا”، فأجابه بري: “طلّعت بيان شو بعمل؟!”.

أصاب الثنائي وحلفاؤه في احتساب الأصوات، ونجحت محاولتهم لإنجاح برّي من الدورة الأولى. تسلّم برّي أوّل جلسة في ولايته السابعة. من قال إنّ للسنين عدّاداً في كتاب عمره. حاضراً متربّصاً لِما يصوّب باتّجاه المجلس. يغازل هذا ويضحك لذاك. لا تعنيه لعبة الأصوات وما يُبنى عليها. صوَّب في كلمته بوصلة دورته الجديدة رئيساً للسلطة التشريعية من دون أن يفوته الغمز من قناة “الزملاء الذين عارضوا انتخابه رئيساً، سواء بالتصويت بورقة بيضاء أو باختيار اسم خارج السياق المألوف أو بالاقتراع من باب الزكزكة”، متابعاً: “سأحترم كلّ هذه الأمور، وسألقي خلفي كلّ إساءة، وسنلاقي الورقة البيضاء بقلب أبيض ونيّة صادقة، ويدي ممدودة للجميع للتعاون من أجل إنقاذ لبنان”. دعا إلى “الاحتكام للإرادة الوطنية الجامعة المتمثّلة بقلق الناس وآمالهم بالقدرة على التغيير”، مضيفاً: “لا لمجلس يُعمّق الانقسام بين اللبنانيين، ولا للفراغ في أيّ سلطة، ونعم جريئة وبلا مواربة للانتقال من دولة المحاصصة إلى دولة المواطنة والمؤسسات والدولة المدنيّة”.

التغييريون كانوا “ديكوراً” جميلاً، لكنّ “النظام” لا يزال في مكانه، هو و”الأكثرية” و”النصاب السياسي”

“بولا” النجمة

في جلسة البرلمان الأولى حاولت يعقوبيان فرض حضورها والظهور كأنّها مايسترو المعارضة، فسارعت إلى إعلان ترشيح فراس حمدان لهيئة مكتب المجلس، وهو ما خلّف امتعاضاً من تصرّفها في صفوف نواب التغيير. السبب أنّها تتقن اللعبة أكثر. سارعت إلى كبس الزر طلباً للكلام. مداخلات يعقوبيان المتكرّرة أثارت غضب برّي الذي دعاها إلى الصمت على طريقته “اسمعي يااااااه”.

في المقارعة الثانية صوّت النواب لانتخاب نائب للرئيس. المرشّحان من دون ترشيح هما عضو تكتّل لبنان القوي الياس بو صعب والنائب غسان سكاف. منافسة حامية أفضت إلى إعادة الانتخاب مجدّداً. حمل نواب التيار أقلامهم استعداداً لمواكبة فرز الأصوات. آلان عون تولّى احتساب أصوات بو صعب، بينما يجلس الثاني إلى جانبه ويتتبّع حبر قلمه بحذر. من جهتهم، احتسب نواب القوات أصوات غسان سكاف. تجاوز بو صعب الخطر، و”يس” صرخ العونيون. كان أوّل المهنّئين جبران باسيل. فيما خابت حسابات سكاف. ثمّة من أخلّ بالاتفاق. التغييريون في قفص الاتّهام قوّاتياً. والمستقلّون صوّتوا لبو صعب. خلال عملية التصويت الثانية لمنصب نائب الرئيس، طالب أحد النواب الرئيس برّي بتشغيل التكييف، بعدما شهدت قاعة المجلس انقطاعاً للتيار الكهربائي لثلاث مرّات خلال وقائع الجلسة. وردّ برّي على النائب قائلاً: “تحمّلوا تحمّلوا… الناس قاعدة بلا كهرباء”.

إذا كانت معركة برّي تحصيل حاصل، فإنّ فوز بو صعب، في الدورة الثانية، بمنصب نائب رئيس مجلس النواب بـ 65 صوتاً، مقابل 60 صوتاً لسكاف، وورقتين بيضاوين وورقة ملغاة، شكّل الهدف الذي حقّقه التيار وحلفاؤه في مرمى الأكثرية الجديدة ليثبت بما لا يحمل الجدل أنّ المجلس النيابي انقسم على نفسه بين أكثرية عددية وأخرى عمليّة.

يُسجّل لمجلس النواب أنّه شهد في تاريخه الحديث منافسة على انتخاب نائب الرئيس وهيئة مكتب المجلس. أشاع دخول النواب الجدد جوّاً مختلفاً، وحوّل الجلسة إلى جلسة تاريخية. فضح الخلاف على تفسير الدستور وتغليب التوافق على ما عداه طوال السنوات الماضية.

 

فضل “مفتٍ” دستوريّ

كان لافتاً إصرار نائب حزب الله حسن فضل الله على الاستشهاد بالدستور في احتساب الأصوات لنائب الرئيس. لغط دستوري مجدّداً. توجّه النائب حسن فضل الله إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري بالسؤال عن إمكان احتساب الأوراق الملغاة ضمن المقترعين، قائلاً: “في الانتخابات النيابية لم تُحتسب الأوراق الملغاة ضمن الحاصل، ولو كانت احتُسبت لتغيّرت نتائج الانتخابات في عدد من الدوائر”. وقال للرئيس برّي غير منتبهٍ للميكروفون المفتوح: “بيت فضل الله مش بس بيفتوا بالدين، بيفتوا بالدستور كمان”.

فتصدّى له النواب، وأنهى نائب القوات جورج عدوان الجدل بالتفريق بين الانتخابات داخل المجلس وتلك النيابية. ووقفت بولا لتقول: “وين في حاصل هون؟”.

مداخلات فضل الله وزميله في الكتلة ذاتها علي عمّار الذي أشار إلى الصورة السيّئة التي تُنقل للرأي العام عن الجلسة بخصوص الجدل الدستوري أظهرت حزب الله وكأنّه يريد أن يوصل رسائل إلى النواب التغييريين بأنّ لغة التظاهر في الشارع تختلف عن اللغة داخل البرلمان حيث الاحتكام إلى الدستور. كانت المداخلتان لزوم ما لا يلزم بالنظر إلى ما أظهرته من مواجهة بين حزب الله والتغييريين داخل البرلمان. أثار السجال بخصوص انتخاب عضوَيْ أمانة السرّ لغطاً دستورياً بين النواب ممّن رفضوا انتخاب كلّ عضو على حدة اختصاراً للوقت، فردّ برّي عليهم بالقول: “شو عندكم شغل؟”.

لم تخلُ جلسة أمس من سجال طائفي إلى حدّ المزايدة على خلفيّة تسجيل نواب التغيير موقفاً رافضاً لأيّ انتخاب على أساس طائفي، وهو ما تسبّب بسجال درزي داخلي غير مباشر بين فراس حمدان الرافض لأيّ انتخاب على أساس طائفي ونائب الحزب الاشتراكي هادي أبو الحسن الذي حذّر من كسر العرف في عملية الانتخاب يسانده زميله وائل أبو فاعور، فاضطرّ حمدان إلى الانسحاب ومغادرة الجلسة.

انتهت جلسة أمس إلى اعتبار نواب التغيير والثورة أنّ نواب السلطة كانوا متشنّجين وخائفين بدليل أدائهم، بينما اعتبر نواب المعارضة أنّ التغييريين إنّما أرادوا إثبات حضورهم في هذه الجلسة ولو على حساب العرف والدستور.

ظنّ كلّ فريق أنّه حقّق هدفاً في ملعب الثاني، وبعث له برسالة. أمّا برّي فدعا الـ128 نائباً إلى العمل من أجل مجلس نيابي يرسّخ السلم الأهلي وينجز الاستحقاقات في موعدها. انتهت الجلسة وخرج الجميع. سرب من السيارات السوداء الحديثة تصل تباعاً لنقل نواب الأمة. لعلّها المرّة الأولى التي اختبر هؤلاء العتمة والطقس الحارّ، بعدما اعتادوا رؤية الناس من خلف زجاج سياراتهم الداكن.

وسيراً على الأقدام غادر النواب التغييريون. بعيداً سار فراس حمدان ودخل ذاك الشارع المتفرّع الذي كان ممنوعاً عليه دخوله وتعرّض فيه لإصابة في قلبه على يد شرطة المجلس. عاد إليه نائباً منتخباً لينطق باسم من كان معه في مشواره. وقد حضرت شرطة المجلس أيضاً في أوراق الاقتراع من باب تسجيل الموقف.

 

لا أكثرية ولا أقلية؟

في اليوم النيابي الطويل ثبت أن لا أكثرية ولا أقلية، بل مجموعات تلتقي وتختلف وفق مصالحها، وبات واضحاً أنّ العمل سيكون “على القطعة”، ولا يوجد ما يُسمّى “الديمقراطية التوافقية”. هي جلسة “تسجيل أهداف”، بلمسات لا تخلو من الديمقراطية. الجلسة حضرها حشد من الدبلوماسيين باستثناء سفيرَيْ أميركا وفرنسا والسفير السعودي.

فاز بنتيجتها النائب آلان عون بموقع أمين السر المخصّص عرفاً للموارنة في هيئة مكتب مجلس النواب بـ65 صوتاً، مقابل النائب زياد حواط الذي نال 38 صوتاً، وميشال دويهي 4 أصوات، و9 أوراق بيض و10 ملغاة. وفاز أمين السر الثاني النائب هادي أبو الحسن بالتزكية بعد انسحاب النائب فراس حمدان. كما تمّ التوافق على انتخاب النواب: آغوب بقرادونيان، ميشال موسى وعبد الكريم كبارة بالتزكية كمفوضين لهيئة مكتب المجلس.

إقرأ أيضاً: يوم الـ65: وداعاً لـ”الثلث المعطِّل”

عمليّاً هيئة مكتب المجلس صمّمها برّي ورتّب لها لتتوافق ومزاجه السياسي، وغاب عنها نواب التغيير. إخفاق جديد يُحتسب عليهم. انتهت الجلسة وشرع برّي ونائبه وهيئة مكتب المجلس في تقبّل التهاني. “العتمة” لم تمنع تناغم برّي والنائب محمد رعد. ضحكة برّي لرعد انتشرت على مواقع التواصل. وهي تقول أشياء كثيرة. فبادله الأخير بطبع قبلة على كتفه فيها من المعاني ما يكفي، وثالثهما كان بو صعب.

قد تكون هذه الصورة الأوضح لمن “يحكم” في ساحة النجمة.

التغييريون كانوا “ديكوراً” جميلاً، لكنّ “النظام” لا يزال في مكانه، هو و”الأكثرية” و”النصاب السياسي”. 

مواضيع ذات صلة

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…