عام 1976 وقف وليد جنبلاط حابساً دمعه وكابتاً حزنه، يُلبسه شيخ عقل الموحّدين الدروز، الراحل محمد أبو شقرا، العباءة الجنبلاطية، إثر اغتيال والده كمال جنبلاط عام 1977.
كان في بيروت حين تبلّغ خبر مقتل والده على طريق دير دوريت في الشوف. حضر إلى المختارة بينما كان كمال جنبلاط مضرّجاً بدمائه وسط غضب عارم، فاستجمع قواه وصرخ “خذوه إلى المستوصف”.
خلال تشييع الجنازة تقدّم شيخ العقل آنذاك محمد أبو شقرا منه قائلاً: “الحمد لله عوّضنا عن السلف بالخلف وليد، حفظه الله ورعاه”. ووضع العباءة السوداء على كتفيه لترتفع أصوات المشايخ والمشيِّعين مبايعة.
هكذا صار للوليد شعاره: “ادفنوا موتاكم وانهضوا”.
يأتي تيمور إلى الزعامة بلا دماء ولا حروب. حتى سعد الحريري، ورث الزعامة من حفرة 14 شباط العميقة في الداخل والخارج
في العام 2017 ألبس وليد جنبلاط كوفيّة فلسطين التي ورثها عن والده، لحفيد كمال جنبلاط، تيمور، ونصّبه وريثاً شرعيّاً. وبالأمس عاد ليؤكّد هذا الانتقال الهادىء، بلا دماء هذه المرّة، في نيسان 2022، قبل أسبوع من الانتخابات النيابية.
مزهوّاً بدا جنبلاط بتسلّم نجله في ظلّ رعايته، ومربكاً بدا الوريث. لحظة تاريخية جمعتهما. يوم تسلّم وليد تحلّق حوله دروز الجبل وكلّ دروز المنطقة، ورعته موسكو صديقة المختارة التاريخية.
أما تسليم تيمور فقسمه وليد على مرحلتين، أولى في 2017، حين ألبسه كوفية فلسطين بحضور ممثلين عن حزب الله والرئيس سعد الحريري، وأوصاه بقضية القدس وفلسطين، وثانية يوم السبت الفائت، بحضور مشايخ الطائفة وسفيري المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، وأوصاه بأن يسير “ضدّ محور الممانعة، محور التدمير والتزوير”.
يوم تسلّم تيمور أودعه الأب في عهدة مشايخ الطائفة، وهو الرجل المدني المتفلّت من تقاليد الدين وخباياه، وأوصى به السفيرَيْن، بينما غابت روسيا عن المشهد. الفارق بين مشهدَيْ 1977 واليوم أنّه في الأوّل ورث الابن بعد اغتيال والده، وفي الثاني الوالد يورِّث ابنه، لتكون الزعامة الأولى في تاريخ لبنان التي لم تخرج من نعش أو تأتي في أعقاب اغتيال سياسي.
وليد جنبلاط ابن الـ28 سنة، الذي كان يمضي حياته بعيداً عن السياسة وهمومها متمرّداً على كلّ ما يحيط به، أُجبر عنوة على أن يكون زعيماً للطائفة، وها هو يُجبر نجله البكر ابن الأربعين عاماً على وراثتها.
الأوّل ورث في لحظة مصيرية “حركة وطنية” تسلّمها على نعش أبيه، أمّا الثاني فسيرث طائفة تفتح ذراعيها على الانقسام في وطن مشلَّع الأبواب على الأزمات.
خاض وليد جنبلاط الحرب وخرج زعيماً في زمن السلم، لكنّ تيمورَ ليس وليداً بشهادة الأخير. بين كمال والابن وليد والحفيد تيمور جامع مشترك وحيد، وهو أنّ الثلاثة قبلوا الزعامة مرغمين، مع فارق أنّ كمالاً ووليداً تزعّما على خلفيّة اغتيال دموي. إذ أنّ فؤاد جنبلاط مات قتلاً في 1921، وتسلّمت زوجته نظيرة قيادة المختارة إلى أن كبر كمال. فيما سيسمح الحظّ للوريث أن يتتلمذ على يد والده.
نهاية “زعامة الدم”
الزعامات السياسية المذهبية في لبنان الحديث، الراسخة في الأرض وبين الناس، هي الزعامات التي بُنيت حجراً حجراً، بالدماء والجماجم. الزعماء الأقوياء هم الذين قَتَلوا وقُتِلوا. هم المقاتلون الشرسون. هم الذين خاضوا حروباً واضحة. وليد جنبلاط وحرب الجبل، وحرب العلمين، وحروب كثيرة جانبية. نبيه برّي وحرب المخيّمات وحرب إقليم التفّاح وانتفاضة 6 شباط. القوات اللبنانية وحروبها الكثيرة. حزب الله وحروبه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.
يأتي تيمور إلى الزعامة بلا دماء ولا حروب. حتى سعد الحريري، ورث الزعامة من حفرة 14 شباط العميقة في الداخل والخارج. ثم عبر في 7 أيّار، قبل أن تطويه الأزمات. وسامي الجميّل ورث دماء شقيقه بيار وقبله عمّه بشير. ومع الدعاء بطول العمر لوليد جنبلاط، فإنّ نجله يأخذ الزعامة على طبقٍ من أزمات داخلية وخارجية، لكن بلا دماء ولا تضحيات.
لكن باعتزاله، يكون وليد جنبلاط قد سجّل سابقة في انتقال الإرث السياسي من الأب إلى الابن “على حياة عينه”. بينما كان المتعارف عليه أنّ إرث آل جنبلاط السياسي لا يُنقل إلا بالموت والاغتيالات. وما حدث منذ العام 2005، حين بلغت موجة الاغتيالات مداها في لبنان في مرحلة ما بعد الطائف، جعل جنبلاط يتنقّل حاملاً وصيّته في جيبه.
دقّت ساعة الراحة وقد بلغ جنبلاط من العمر السياسي عتيّاً، ويريد أن يشرف على تسلّم ابنه وعلى تدرّجه في السياسة تحت مظلّته ويجنّبه مرارة تكرار تجربته يوم أُلبِس عباءة والده بعد اغتياله ولم يكن عالماً في الفقه السياسي إلا عناوينه العريضة.
نصف قرن من الزعامة
ما يقارب نصف قرن من الوراثة السياسية عاشها وليد جنبلاط زعيماً على طائفته وسط تقلّبات جعلت منه “بيضة القبّان” في أحيان كثيرة. وكانت أحزاب الطوائف الكبرى تسعى إلى استمالته. وكان مدافعاً شرساً عن حقوق طائفة عاشت على الخوف “الأقلوّي”. خوف جعل جنبلاط سريع التقلّب وغير ثابت في التحالفات أو في المواقف، حتّى صار يوصف بـ”الرجل الزئبقيّ”، وبات مضرب مثل في تغيير الموقف بين ليلة وضحاها، بناءً على “الرادارات” التي اشتهر بأنّه يحملها وتلتقط التغييرات في الإقليم والمنطقة.
مع ذلك لم يستطع أن ينافسه أحد في زعامته على الدروز على الرغم من المحاولات. حتى خصومه بين الأمس واليوم يتجنّبون القفز فوق حيثيّته ويراعون حضوره وسط طائفته. وإن كانت الرغبة بالنيل منه حلماً يراودهم، فيشهرونه متى وجدوا فرصة سانحة، كما يحصل اليوم على أبواب الانتخابات النيابية.
في زمن الأزمات والانحدار السياسي يشعر جنبلاط بغربة عن محيطه السياسي وعن حلفائه القدامى. فتعليق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي ترك في المختارة شعوراً بـ”اليتم”، وكأنّ القصر الجنبلاطي بات معزولاً إلا من حليفه و”أخيه” رئيس مجلس النواب نبيه بري.
الزعيم الذي كان “بينزّل عصايا بتقلب نائب”، اختلف حاضره عن أمسه. كان يخوض المعركة فتُربحه كتلة نيابية يراوح عديدها بين 14 و19 نائباً من طوائف متعدّدة، أمّا الآن فتراجع طموحه إلى حدّ خوض معركة لضمان ربح 6 مقاعد درزية من أصل 8، على مستوى لبنان، تاركاً لطلال أرسلان مقعده كالعادة، ولمروان خير الدين مقعد حاصبيا، بالتوافق مع برّي وأرسلان.
المقرّبون منه يربطون ذلك بطبيعة قانون الانتخاب، ويستدركون قائلين إنّه “على الرغم من ذلك فالكتلة النيابية أيّاً كان عددها لا تصنع الحيثيّة السياسية أو تحدّد حجم الزعامة بدليل أنّ نظيرة جنبلاط لم تكن لديها كتلة نيابية”.
القرار النهائي
قبل فترة أبلغ رئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط محيطه قراره باعتزال العمل السياسي جديّاً هذه المرة، والانتقال بشكل نهائي إلى الصفوف الخلفيّة، مكتفياً بدور المراقب لأداء وريثه السياسي الشرعي نجله تيمور بك جنبلاط، وأنّه قرّر ألا يتدخّل إلا متى دعت الحاجة املحّة فقط.
يعتبر جنبلاط أنّ تيمور بلغ من الخبرة ما يؤهّله لتسلُّم زمام المتابعة السياسية وحده عن قرب، محاطاً بفريق من المستشارين ممّن اختارهم الوالد برضى من الابن بينما تمّ استبعاد آخرين على الرغم من كونهم من أقرب المقرّبين للوالد.
لكن أن يسلِّم تيمور الزعامة أمس خلال احتفال لـ”مؤسسة العرفان” يوم السبت الفائت، فهذا بحدّ ذاته رسالةٌ لِما للمؤسّسة التعليمية من رمزية دينية وسياسية، خاصة حين تحيط برعايتها الزعيم الأربعينيّ الشاب، فتفتح ذراعيها لاحتضانه.
التوريث الثاني
ليست المرّة الأولى التي يعلن رئيس “الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط عن تسليم نجله تيمور مقاليد زعامة الجبل. كانت المرّة الأولى في العام 2017 يوم حقّق حلمه بتطويبه وريثاً شرعياً لزعامة الدروز وألبسه الكوفية الفلسطينية وأوصاه قائلاً: “سِرْ رافعَ الرأسِ، وأشْهِرْ عالياً كوفية فلسطين العربية المحتلّة… كوفية المقاومين لإسرائيل أيّاً كانوا”. حصل ذلك بمباركة وحضور حزب الله الذي كان أوّل المبايعين.
في العام 2020 وفي حديث صحافي قال جنبلاط عن توريث تيمور: “لن يكون وليد جنبلاط كما أنا لم أكن كمال جنبلاط، ويبقى على تيمور تحمّل المسؤولية”. واستمرّت محاولات نقل الزعامة إلى الجيل الثالث من عائلة كمال جنبلاط.
في ذكرى اغتيال كمال جنبلاط قبل شهرين، كان “الزعيم” خارج البلاد. ترك لتيمور وفريقه أن يشرفوا على تنظيم الذكرى من الألف إلى الياء. ومن التقوا تيمور بعدها تيقّنوا أنّه بات حاسماً ومدركاً كيف يحمل على كتفيه عبء 400 عام من الزعامة، وأنّه بات يتصرّف باعتباره الوريث الطبيعي لهذه الزعامة، وأنّها “قدره” وليست “خياراً”.
على مفترق أسبوع من الانتخابات النيابية، يعيد الأب وصاياه على مسامع نجله، وغالبيّتها تتمحور حول العناوين الكبرى سياسياً واجتماعياً، ويحدّد له عناوين عمله ليخلي له الساحة مختتماً 45 سنة من الوراثة السياسية لمسيرة والده كمال جنبلاط، ومفتتحاً عهداً سياسياً جديداً لنجله البكر من زوجته الأولى. لكن هذه المرّة بدل الكوفية، دعاه إلى السير “ضدّ محور التدمير والتزوير”، أي محور الممانعة. وذلك في حضور سفيري المملكة العربية السعودية والكويت، بدلاً من ممثّلي حزب الله والرئيس سعد الحريري، حين سلّم تيمور الشعلة في 2017.
الزعامة قبل “الكتلة” النيابية
ينظر الموحّدون الدروز إلى المختارة على أنّها زعامة وهيبة قبل أن تستند إلى كتلة نيابية ترفض المهادنة أو الاستسلام. لكنّ الوقائع تشير إلى وجود تغيّرات جذرية اضطرّ زعيم المختارة إلى مجاراتها. أوّلها والأهمّ التحالف مع القوات اللبنانية، بما يشبه “إكراه الذات”، لضمان نجاح مرشّحيه. وأيضاً هناك استنجاده بالسعودية بمواجهة قرار المقاطعة السنّيّة، التزاماً بتوجّه الحريري. وذلك ليضمن نجاح مرشّحه وائل أبو فاعور في البقاع الغربي. واضطرّ كذلك إلى المقايضة انتخابياً ويده على القلب خشية خسارة المقعد الدرزي في دائرة بيروت الثانية، ورمزيّته في العاصمة.
لم يعد يشعر جنبلاط بأنّ مكانه محفوظ وسط التركيبة التي تبشّر بها نتائج الانتخابات النيابية. انسحاب الحريري صعقه. على الرغم من الاختلاف والاتّهامات المتبادلة لكلّ منهما بطعن الآخر، يرتاح جنبلاط إلى العلاقة الشخصية التي تجمع الحريري بتيمور، وإلى أنّ برّي سيحيط طوال فترة رئاسته الجديدة للمجلس نجله تيمور برعايته السياسية كما شمل والده برعايته ودوّر الزوايا حفاظاً على مصالحه. حتى أنّه حين فتح معركة شرسة ضدّ حزب الله في الإعلام، لم يفُته أن يترك، كما دائماً، “خطوط الرجعة” مفتوحة.
على عتبة مرحلة جديدة ومجلس نيابي جديد يريد جنبلاط أن يقلب صفحة الماضي أمام نجله ويفتح له على المستقبل من دون أن ينسى تسليمه فيضاً من الثوابت في المواقف والسلوك السياسي. فها هو تيمور يزور المرجع الروحي الأعلى لدى طائفة الموحّدين الدروز الشيخ أبو صالح محمد العنداري في خلوته بالعبادية، وهو أحد أعضاء الهيئة الروحية لدى الموحّدين الدروز. بينما كان لافتاً عدم زيارته رئيس الهيئة أمين الصايغ الذي سبق أن أعلن رفضه استقبال السياسيين. وفي السياسة تسلّم إرث السابع من أيار دون أن يفوته اللعب على وتر التهديد بـ”إلغاء المختارة”.
أنهكت جنبلاط مسؤوليّاته العائلية وضاق صدره من تراكم الأزمات. من تيمور الشابّ الواعد الملزم بإمتهان السياسة التي لم تستهوِه يوماً إلى داليا التي خطّت أسلوب حياتها بتفاصيلها المخالفة لأعراف الطائفة وفرضته على الوالد. سبق جنبلاط أبناءه إلى أسلوب حياة مختلف وجريء، لكنّ ذنب أبناء المختارة دائماً مغفور وكلمته تعلو ولا يُعلى عليها.
الراغب في الزهد السياسي اختار التنحّي لزعامة نجله. لكن هل لزعيم لا يزال المقرِّر الوحيد من أصغر تفصيل في الطائفة إلى أكبره أن يتنحّى في زمن ثقلت فيه الاستحقاقات المحلية وزادت على قدرة النجل الأكبر على التحمّل؟
إقرأ أيضاً: وليد جنبلاط يسلّم تيمور(1): “سِر ضدّ محور التدمير والتزوير”
“لن يكون وليد جنبلاط كما أنا لم أكن كمال جنبلاط، ويبقى على تيمور تحمّل المسؤولية”.
فكيف سيتصرّف الابن؟ وهو الوارث عبئاً ثقيلاً في الدين والسياسة كما في الاقتصاد.
كثرٌ يتحيّنون ابتعاد الأب عن الابن للعبور إلى الزعامة الدرزية بأمان.
همّ الوريث كبير والعين على الأقربين قبل الخصوم.