كان لا بدّ لوليد جنبلاط أن يعود إلى العام 2005، كي يدخل إلى الحاضر. كأنّ لبنان كلّه مازال يقيم في ذلك العام. ولأنّ تداعيات تلك الأيام هي التي رسمت خارطة أقدار اللبنانيين.
هو خطاب مفصليّ سلّم خلاله رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط رايته مجدّداً إلى وريثه الشرعي في الطائفة والعائلة والحزب: “سِر يا تيمور مع الوطنيين والعرب في عملية التحدّي وحماية مصالحة الجبل”، قال لنجله البكر. لتكون تلك هي الوصيّة الأمّ، وقد تلاها على مسامع رجال الدين وكبار رجالات الطائفة ليكونوا شهوداً على المستقبل وراعين للوريث قلباً وقالباً.
من تسليم وسط الحشود في 2017، إلى تسليم في حضرة مشايخ الطائفة… جلس تيمور في الصف الأمامي منصتاً إلى وصايا والده الذي شرّع أمامه أبواب الذاكرة على حرب الجبل وما تلاها
اختلفت الوصيّة عن الوصية الأولى في 2017. قال يومها في ذكرى استشهاد كمال جنبلاط، بحضور ممثلين عن حزب الله، وكان يلبس كوفية فلسطين: “يا تيمور سِر رافع الرأس، واحمل تراث جدّك الكبير كمال جنبلاط، وأَشهِر عالياً كوفيّة فلسطين العربية المحتلّة، كوفيّة لبنان التقدّمية، كوفية الأحرار والثوار، كوفية المقاومين لإسرائيل أيّا كانوا، كوفية المصالحة والحوار، كوفية التواضع والكرم، كوفية دار المختارة”.
اليوم ربما لم يعد مُجدياً التضامن مع كوفيّة المقاومين لإسرائيل، أيّاً كانوا، بعدما بات يعتبرهم البيك الكبير “محور التدمير والتزوير”.
المشترك بين المشهدين هو الجمع الغفير من رجال الدين من أبناء الطائفة وخارجها. في 2017 كان إلى جانبه رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، وقد زيّنت كتفه الكوفيّة ذاتها. يومها ضاع نجله تيمور وسط الزحمة. نادى عليه مرّة ومرّتين، وفي الثالثة استعان بالميكرفون منادياً: “بدنا تيمور”. أطلّ الوريث فارتفع صوت الأب “شباب افتحوا له الطريق”. صار بمحاذاته، رفع الوالد كوفيّته وألبسها لتيمور وسط تصفيق عالٍ سرعان ما خفت مع بدء وليد جنبلاط بتلاوة الوصية:
التوريث الثاني…
بفاصل سبع سنوات، حفلت بكثير من الأحداث والتطوّرات.. والإخفاقات، ابتعد خلالها تيمور عن واجهة الأحداث، اختار وليد جنبلاط أن يعيد تسليم الراية لوريث العائلة والطائفة مع اختلاف في الشكل وتصعيد في المضمون. عاد وليد جنبلاط إلى لغة التصعيد لضمان نجاح حزبه في الانتخابات، وبعدها لكلّ حادث حديث.
كان التسليم الأوّل في المختارة، لكن أمس الأوّل اختار أن يكون التسليم الثاني في احتفال “اليوبيل الذهبي” لـ”مؤسسة العرفان التوحيدية” في السمقانية بالشوف. بالطبع لِما لهذا المكان من رمزية دينية وسياسية: “وحيثُ كانت تلتقي أعيانُ بني معروف، للتشاور، وتبادلِ الرأي، أيّامَ التحدّياتِ والأزمات”.
تقصّد الأب أن يضمن إحاطة مشايخ الطائفة بالوريث طالباً حمايتهم، بينما يتعرّض لاغتيال ثانٍ: “أتوجّهُ إليكم، إلى العمائمَ البيضاءِ، عمائمَ الحكمةِ والتوحيدِ والعقلِ والإيمانِ، عمائمَ النخوةِ والعزّةِ والكرامة، بأنّ نردَّ الهجمةَ سويّاً كما فعلتم في جبلِ العرب، وكما فعلتم في كلِّ موقعةٍ من حربِ الجبل، وذلكَ عبرَ صناديقِ الاقتراع، لمنعِ الاختراق، ومنعِ التطويعِ والتبعيّة”، معلناً صراحة عن معركته لضمان زعامة نجله بكتلة نيابية درزية وازنة تؤسّس لحيثيّته درزيّاً وسياسياً، وإلّا أُصيب بمقتل.
من تسليم وسط الحشود في 2017، إلى تسليم في حضرة مشايخ الطائفة… جلس تيمور في الصف الأمامي منصتاً إلى وصايا والده الذي شرّع أمامه أبواب الذاكرة على حرب الجبل وما تلاها.
حليف القوات اللبنانية الانتخابي لم يجد ضيراً بالحديث عن معركة الشحّار الغربي، لشدّ العصب الطائفي وإعلان النفير العامّ على مسافة أسبوع من فتح صناديق الاقتراع. فعاد بالذاكرة إلى أحداث العام 1976 ومواجهة “السوري” الذي دخل آنذاك بناءً على مناشدة من الجبهة اللبنانية وبتغطية عربية.
مواجهة الممانعة
بين عامَيْ 2017 و2022 رفع جنبلاط من لهجته تجاه الممانعة. وبعدما ألبس تيمور “كوفية المقاومين لإسرائيل أيّاً كانوا، كوفية المصالحة والحوار، كوفية التواضع والكرم، كوفية دار المختارة”، ناصحاً إيّاه “عند قدوم الساعة ادفنوا أمواتكم وانهضوا، وسيروا قدماً، فالحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم، لا للضعفاء”… ها هو اليوم يعود مجدّداً إلى خطاب العام 2005. ليشنّ هجوماً قوياً ضدّ محور الممانعة: “بئسَ الذينَ يريدونَ مصادرةَ القرارِ الوطني اللبناني المستقلّ لصالحِ محورِ الممانعة، محور التدمير ومحور التزوير، في كلِّ موقعٍ من الجبلِ إلى الجنوبِ، استشهدَ لنا وللحركةِ الوطنيّةِ مقاتلونَ في مواجهةِ إسرائيل، لكنّنا لن نسمحَ لأحدٍ بسرقةِ تراثِنا النضالي، تحتَ أيّ شعار”.
كلمات حاسمة، في لحظة مزدوجة، لحظة “التسلّم والتسليم”، أمام أعيان بني معروف، وهي لحظة تاريخية، ولحظة عابرة، هي الانتخابات النيابية. وقد وازن أبو تيمور بين “توريث 2017″ و”توريث 2022”. في الأوّل كانت الوجهة فلسطين، والزيّ هو الكوفية، وفي الثانية كانت الوجهة هي التصدّي والصمود أمام “محو التدمير والتزوير”، والزيّ هو اللباس الرسمي لمشايخ الدروز.
وكان الكلام حاسماً في السياسة. كأنّ البيك الكبير يواسي نجله بما سيشهده في الآتي من الأيام، فيذكّره بقتاله وحزبه دفاعاً عن الوجود ويدفعه باتجاه المواجهة.
نجح تيمور في الامتحان. بدا خطيباً متمرّساً ومواقفه زادت على مواقف والده أو غرفت من معينه، ولا سيّما لهجة التحدّي إزاء أحداث السابع من أيار
وكما في العام 2017، كذلك اليوم وثّق جنبلاط مواقفه بحضور عربي تقدَّمه سفيرا المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، مع فارق رفع سقف المواجهة من دون أن تفوته الإشارة إلى أنّه “كانت للمملكةِ والكويت والاتحاد السوفياتي وقفاتٌ متميّزةٌ مع بني معروف والوطنيين العرب في لبنان”.
هناك غائب آخر كان حاضراً، هو زعيم المستقبل سعد الحريري أو من يمثّله، الذي استدركه بالقول: “لن ننسى الدورَ السياسي والاجتماعي للشهيد رفيق الحريري مع عروبةِ لبنان وأهلِ الجبل وإسقاط السابع عشر من أيار”.
أما وقد شارف عُمْر جنبلاط “على شتائِه”، بحسب كلماتِهِ أمس الأوّل، فقد عاهد أبناء طائفته على إكمال المسيرة من خلال تيمور الذي قال له: “سِر يا تيمور، ومن حولِك أهلُ العرفان، والحزب، والوطنيون والعرب في الداخلِ والخارج، سِرْ في عمليّةِ التحدّي في إعلاءِ شأنِ المختارة، وتراثِها العربي والفلسطيني، وسِرْ في عمليّة حماية مصالحةِ الجبل، سِرْ ونحنُ معك وداليا وأصلان، ولا خوفَ على المستقبلِ، فالرجالُ رجال، والمبادئُ مبادئ”.
إقرأ أيضاً: خطّة الحزب: تطويق جنبلاط.. تفكيك السُنّة.. والمسيحيّين لاحقاً
بلغة الأمر خاطبه بعدما تأكّد أنّه صار أهلاً للمسؤولية. كان اختباره الأوّل في احتفال ذكرى استشهاد جدّه المعلّم كمال جنبلاط التي أحياها تيمور وحيداً، للمرّة الأولى دون والده، بينما آثر الأب الابتعاد للمرّة الأولى منذ تاريخ الاغتيال عام 1976.
نجح تيمور في الامتحان. بدا خطيباً متمرّساً ومواقفه زادت على مواقف والده أو غرفت من معينه، ولا سيّما لهجة التحدّي إزاء أحداث السابع من أيار. رفع هو الآخر من سقف مواقفه مجبراً لا بطلاً لغايات انتخابية ولشدّ عصب الطائفة التي يتوجّب التذكير دائماً بأنّها مهدّدة.
في الحلقة الثانية غداً:
وليد جنبلاط يتنحّى مجدّداً (2): الثالثة ثابتة؟