ليسوا 60 ولا 70، بل 83 شخصاً كانوا على متن “مركب اليأس” والموت الطرابلسي، عثر على جثث 6 منهم، وليس 9 كما جاء في بيان الجيش الأوّلي. ومازال هناك 32 في عداد المفقودين. وغالبية من كانوا على متنه لبنانيون، بينهم 9 سوريّين و4 فلسطينيّين، وجميعهم من سكّان مدينة طرابلس وضواحيها.
بيان الجيش نفسه قال إنّ البحرية اللبنانية عملت بمؤازرة مروحيّات تابعة للقوّة الجويّة على سحب المركب، وإنقاذ معظم من كان على متنه، وتقديم الإسعافات الأوّلية لهم، ونقل المصابين منهم إلى مستشفايات المنطقة.
فعن أيّ مركب يتحدّث بيان الجيش، في حين أنّ المركب لا يزال في قاع البحر على عمق 400 متر، ولم يتمّ انتشاله حتّى تاريخ إعداد هذا التقرير.
ليسوا 60 ولا 70، بل 83 شخصاً كانوا على متن “مركب اليأس” والموت الطرابلسي، عثر على جثث 6 منهم، وليس 9 كما جاء في بيان الجيش الأوّلي
هل هناك تسجيل للحادث؟
تشير التسريبات الواردة من جلسة الحكومة الاستثنائية إلى أنّ قائد الجيش عرض على شاشة كبيرة صور وفيديوهات تُظهر بالوقائع وبالتوقيت كيف حصلت الحادثة، بيد أنّ المعلومات التي حصل عليها “أساس” وعرضتها الزميلة ملاك عقيل في مقالتها بتاريخ 27 نيسان، تؤكّد عدم تزويد مركب الجيش بكاميرات مراقبة، وأنّه لم يتمّ تصوير فيديوهات توثّق عملية المطاردة والتفاوض. ولو كان هناك فيديوهات لقام الجيش بتسريبها إلى وسائل الإعلام، إلّا في حال وجود صوّرها أحد ضباط الخافرة العسكرية بهاتفه لا يريد الجيش أنْ تصل إلى الرأي العام.
ومن الأمور التي واصل الجيش التأكيد عليها، قبل الجلسة وخلالها وبعدها، أنّ قائد الخافرة حاول إقناع قائد المركب إيّاه بالعودة، خاصّة أنّ هناك أطفالاً، لكنّه لم يستجِب. في المقابل تُجمِع كلّ روايات الناجين، ولا سيّما الأطفال منهم، على أنّ قائد الخافرة كال لهم السباب والشتائم وتوعّدهم قائلاً “بدّي غرّقكم”، ومنها شهادات فورية بعد حصول الفاجعة بوقت قليل، وبعض من تحدّث كانت ثيابه لا تزال تقطر ماء، ولذلك من المستحيل أنْ يكون هناك اتّفاق مسبق بين الناجين على تلك الشهادات. هذه الروايات إن تدلّ على شيء فعلى الفوقيّة اللتين يتمّ التعامل بهما مع أهل طرابلس من قبل مجتمع “الأصفياء” أصحاب “النجوم اللامعة”.
تمخّض الجبل فولد فأراً
انتظرت الحكومة يومين كاملين قبل أنْ تعقد اجتماعاً استثنائياً للبحث في قضيّة غرق الزورق قبالة مدينة طرابلس وتقرّر فيه إنشاء مجلس إنماء الشمال! والأنكى من ذلك أنّ الحكومة التي تعرف مدى محدوديّة إمكاناتها وضآلة قدراتها في نكبات من هذا النوع لم تبادر، سواء عن طريق رئيسها أو وزرائها، إلى التواصل مع أيّ دولة لطلب المساعدة في جهود البحث عن المفقودين.
لم يحاول الرئيس ميقاتي، صاحب العلاقات الدولية المتشعّبة، استثمار هذا الرصيد الضخم للحصول على مساعدة في حملات البحث عن المفقودين المتواضعة وشبه البدائية. لو قام باتّصال واحد لكانت البيانات الميقاتيّة تتصدّر الإعلام لكنّه لم يفعل، فلماذا؟
ألم يكن يجدر برئيس الحكومة إنشاء غرفة عمليات عاجلة برئاسة وزير الداخلية للإشراف على عمليّات الإنقاذ؟ وأين محافظ الشمال الذي لديه صلاحيّات تجعله بمنزلة رئيس جمهورية المحافظة؟
انتظرت الحكومة يومين كاملين قبل أنْ تعقد اجتماعاً استثنائياً للبحث في قضيّة غرق الزورق قبالة مدينة طرابلس وتقرّر فيه إنشاء مجلس إنماء الشمال
ورئيس الجمهورية الذي كان يجمع المجلس الأعلى للدفاع لمعالجة قضايا لا شأن له بها، حتّى وصل الحال به إلى عقد اجتماع لبحث قضية النفايات، لكنّه لم يجد في فاجعة زورق طرابلس ما يستحقّ أنْ ينعقد المجلس الأعلى للدفاع لأجله.
لقد أهدرت الحكومة يومين كاملين، كلّ ساعة فيهما، بل حتّى كلّ دقيقة، ربّما كانت كفيلة بإنقاذ روح بريئة، ومن دون سبب واضح، إلى أنْ اجتمعت وكلّفت وزيرَيْ الدفاع والخارجية بطلب المساعدة اللازمة، من دون أنْ نرى شيئاً بعد، فماذا ينتظران؟
هل تريد الحكومة تكرار ما حدث في قارب الموت الذي ذهب ضحيّته عدد من الأبرياء من طرابلس أيضاً، في أيلول 2020، ولا يزال ثلاثةٌ مفقودين حتّى يومنا هذا؟ هل تسعى الدولة بحكومتها وأجهزتها إلى دفن الحقيقة مع المركب في قعر بحر لجّيّ؟ أم أنّ مكتوب على أهل طرابلس وعكّار والشمال كلّه، أن يكون دمهم “ماء”، من “مجزرة التليل” التي لم يحاكم أي مذنب فيها، إلى قوارب الموت البحريّة.
المتّهم يحاكم نفسه؟
وفي الجلسة نفسها التي اختُلف فيها على مصطلح استدعاء قائد الجيش أو حضوره من تلقاء نفسه، تمّ تكليف قيادة الجيش القيام بالتحقيق، وقد تعهّد قائده القيام بتحقيق شفّاف. كانت خطوة جيّدة من قبل القائد حضوره الجلسة، لكنّها ناقصة، إذْ كان يتوجّب عليه طلب تنحية القضاء العسكري عن النظر في القضية. فالجيش طرف ومتّهم، وأيّ عدالة هذه حين يحاكم المتّهم نفسه، حسبما يقول أهل وذوو الشهداء والمفقودين؟
لا ثقة لديهم بالقضاء العسكري الذي لا تزال مآثره حاضرة في الذاكرة الطرابلسية. هم يتّهمون الجيش، فكيف يثقون بتحقيق يشرف عليه ضابط منه؟
لامبالاة ميقاتي؟
يُروى أنّ عبد الله بن عبّاس، ابن عمّ النبيّ محمّد (عليه الصلاة والسلام)، والملقّب بحبر الأمّة وترجمان القرآن، كان معتكفاً في المسجد النبويّ بالمدينة المنوّرة، فأتاه رجل جلس بجواره مكتئباً وحزيناً شكا له أنّ لديه دَيْناً يعجز عن إيفائه. فما كان من ابن عبّاس إلّا أنْ سارع إلى الخروج من المسجد ليكلّم صاحب الدَيْن بالتيسير وتأخير الأجل. عندها سأله الرجل: أنسيت ما أنت فيه؟ (يقصد الاعتكاف). فردّ ابن عبّاس: لا، ولكنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يقول “من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين”. (رواه الإمامان الطبراني والبيْهقي).
إقرأ أيضاً: كيف أبحر “مركب اليأس”: من مرفأ الضبيّة أو القلمون؟
في هذه الأيّام المباركة، التي يسنّ فيها الاعتكاف في المساجد، نستذكر هذه العبرة لِما فيها من معانٍ. فابن عبّاس لم يترك اعتكافه في أيّ مسجد، إنّما في المسجد النبويّ، مع ما له من أجر مُضاعف وعظيم، ولم يتركه لينقذ مسلماً من الموت جوعاً أو غرقاً، بل خرج ليكلّم له دائنه بالتأجيل والنظرة إلى الميسرة فحسب، وهي حاجة ربّما يستصغرها بعض المسلمين اليوم.
أفلا تستحقّ آلام أهل طرابلس، غداة الفاجعة التي ألمّت بهم، بأنْ يوليها رئيس الحكومة وابن المدينة ونائبها الأوّل نجيب ميقاتي الأهمّيّة التي تستحقّ، فيلغي أو على الأقلّ يؤجّل سفره إلى أرض الحرمين من أجل القيام بالعمرة؟ ألم يكن أجدى بالحاجّ ميقاتي، التقيّ الورِع، والساعي في بناء بيوت الله وترميمها، الاقتداء بحبر الأمّة؟ ألا تستحقّ منه هذه الفاجعة اهتماماً أكثر بكثير ممّا أبداه؟