على عمق يصل إلى نحو 400 متر تحت سطح البحر، استقرّ مركب الموت، بعدما أغرق أكثر من 70 مهاجراً حاولوا الفرار من وطن يغرق كلّ يوم في بحر من فساد حكّامه، ومحيط من الفقر.
على هذا العمق في قلب المتوسّط لا تزال أرواحٌ تتوسّد الأرض فريسةً لضواري البحر. ولا تزال طرابلس جرحاً نازفاً ينتظر عودتهم. فيما السلطة التي دفعت هؤلاء إلى هذا المصير، لا تزال تعالج الكارثة بأعصاب باردة.
من غير الواضح حتّى الساعة من هي الجهة القضائية، التي تولّت التحقيق في فاجعة طرابلس. تحرّكٌ خجولٌ مع كارثة بحجم وطن حلّت على أفقر مدينةٍ على شواطئ المتوسط. فقدان أكثر من 25 مواطناً لم يحرك النيابة العامة العسكرية منذ اليوم الأول على عكس دأبها عقب حادث التليل، وزيارة القاضي فادي عقيقي للموقع لم تحصل قبل اجتماع مجلس الوزراء، وذلك بعد ثلاثة أيام من وقوع الجريمة.
روايات متناقضة لا تشفي غليل اللبنانيين الخائفين على مصيرهم، ولا تريح المفجوعين الذين ينتظرون جثث ذويهم التي تتحلّل مع مرور الوقت في عرض البحر
لم يتداعَ المجلس الأعلى للدفاع إلى الاجتماع لاتّخاذ إجراءاتٍ وإعطاء توجيهاتٍ، كالذي سبق أن عقده بُعيد وقوع حوادث مشابهة ذهب فيها لبنانيون. حتى إنّ مجلس الوزراء لم يُعقد أمس الأوّل في موعده، وأجّل جلسته إلى ما بعد يوم الحداد العامّ. وكأنّ الوزراء مرهقون يبحثون عن يوم للراحة بعدما أضناهم العمل في خدمة الناس. لكنّ الحكومة عادت واستدركت بأن استدعت قائد الجيش ومدير المخابرات وقائد القوات البحرية للاستماع إليهم.
التهاون في طلب المساعدة
عند نشوب الحرائق وما تسبّبه من كوارث بيئية، تستعين الدولة بالخبرات الخارجية للمساعدة في إخماد النيران، ولا سيّما الطوّافات القبرصية على سبيل المثال. اليوم وبعد مرور أكثر من 72 ساعة على غرق المركب، وعلى الرّغم من وجود مفقودين في عرض البحر، لم نشهد أيّ مساعدة خارجية، ولا أيّ طلب مساعدة لانتشال جثث الغرقى قبالة الشاطئ. حتى إنّ القوات الدّولية التي تجوب البحر لم تُستدعَ للمشاركة والمساعدة في البحث عن الضحايا. ولم يُرصد لها تحرّك بالعين المجرّدة. كأنّ الضحايا والمفقودين في الدرك الأسفل من اهتمام الدولة، التي عجزت عن توفير جوازات سفر لِمَن يبحثون عن هجرة شرعية عبر المعابر، وها هي تقف اليوم عاجزة أمام المفجوعين الهاربين عبر المعابر غير الشرعية.
وعلى الرغم من أنّ الجيش أعلن عن مساعدة طوافة بريطانية في البحث عن مفقودين أمس، إلا أنّ المطلوب هو غوّاصة أو أكثر، قادرة على الوصول إلى عمق 400 متر تحت المياه، لانتشال الجثث العالقة هناك.
تتطابق روايات الشهود الذين كانوا على متن مركب الموت، ومفادها أنّ طرّاد الجيش اللبناني اعترض قاربهم قبل خروجه من المياه المحلية ودخوله المياه الإقليمية، بغية توقيفه. وهي إفادات تقاطعت بين عدد من الناجين. ولم يبدّد مشهد الغرق الذي عاشوه وتلاطم الموج تفاصيلها. ووصف أحد الناجين المركب الذي كانوا على متنه بأنّه كبير وقادر على استيعاب جميع هؤلاء الهاربين من الجحيم التي يعيشها اللبنانيون.
رواية الجيش: أيّ مرفأ؟
بحسب رواية الجيش فإنّ قائد القارب حاول المناورة غير مرّة، بعدما نادته الدوريّة آمرةً إيّاه بالتوقُّف، فبادر إلى زيادة سرعته، فجنح المركب من الخلف ودخلت المياه إليه، وبعدما حاولت الدورية البحرية قطع الطريق عليه، زاد سرعته لمحاولة الهروب. ووفق المصادر فإنّ المركب هو الذي ارتطم مرّتين بطرّاد الجيش قبل أن تغمره المياه ويغرق في خمس ثوانٍ وسط محاولة العناصر مساعدة مَن هم على صفحة المياه.
وفق رواية الجيش فإنّ حمولة المركب الزائدة جدّاً، كانت تتّجه به نحو الغرق، وهي السبب الأساسيّ لمنعه مِن الإبحار ومتابعة رحلته.
لم يذهب الجيش إلى القول إنّه حادث أليم، ويجب فتح تحقيق لمحاسبة المتسبّبين به، بل راح يحمّل القيّمين عليه مسؤولية عدم امتثالهم لنداءاته المتكرِّرة.
يتّضح من المعلومات المتوافرة عن المركب وعدد الركّاب على متنه عدم إمكان إبحاره من الشاطئ. بل لا بدّ من أن ينطلق من ميناء يوفّر له عمقاً في المياه. وهذا يعني أنّ المركب لا يمكنه الإبحار إلا عبر مرفأ، وهذا الأمر يضعنا أمام احتمالين: إمّا أنّه انطلق من مرفأ الضبيّة، وإمّا من مرفأ القلمون، في حين أنّ مصادر الجيش تشير إلى أنّ المركب انطلق من نقطة على شاطئ القلمون.
يشير توضيح الجيش إلى أنّ الرادارات لا يمكن أن تخطئ في تحديد تحرّكات المراكب، وأنّ الطرّاد والمركب تواجها فور إقلاعه، أي على بعد نحو ثلاثة أميال في عرض البحر، في حين أنّ رواية الناجين تحدّثت عن اقترابهما من المياه الإقليمية، أي على مسافة أبعد من عشرة أميال عن الشاطئ.
روايات متناقضة
روايات متناقضة لا تشفي غليل اللبنانيين الخائفين على مصيرهم، ولا تريح المفجوعين الذين ينتظرون جثث ذويهم التي تتحلّل مع مرور الوقت في عرض البحر. روايات لا بدّ للقضاء من حسم الجدل فيها، فالجيش ليس معصوماً عن الخطأ، ولمنع الاصطياد في بحر الاتّهامات، لا بدّ له أن يكشف الحقيقة ويعلنها ليقطع الطريق أمام القوارب السياسية التي تبحث عن طرّاد في البحر لانتقاد الجيش الذي يعيش ضبّاطه وعناصره معاناة الهاربين من الجحيم.
هناك مسؤولية ما يتحمّلها مَن لم يستطع حماية أرواح المبحرين نحو الموت المحتّم جرّاء قِدَم المركب وحجمه الذي لا يتناسب والأعداد التي أبحرت على متنه، بعيداً عن الدخول في التفاصيل. نحن أمام مركب متصدّع وغير آمن يحمل 70 روحاً في عرض البحر، ومعه طرّاد وزورق صغير للجيش، والمهمّة الأساسية إنقاذ هؤلاء المرغمين على الهرب، ولم تنجح المهمّة.
إقرأ أيضاً: تفخيخ طرابلس بقوارب الموت: استهداف الجيش؟ أو الانتخابات؟
هو جرح مفتوح في طرابلس، التي ينزف أهلها من الأزمات الاقتصادية والمعيشية، ولا شكّ أنّ هذا الجرح يضع الجيش في موقف لا يُحسد عليه، وسيُفتح مع كلّ جثة يلفظها البحر، ومع كلّ تشييع في أحياء طرابلس وزواريبها. وبينما لا تزال القضية من دون تحقيق واضح، ولا تزال التحرّكات للبحث عن المفقودين خجولة من دون الاستعانة بقدرات خارجية، أشارت معلومات إلى أنّ الضابط الملازم الذي كان يقود الزورق الصغير وثّق بعدسة هاتفه ما حدث… فلماذا لم ينشر الجيش هذه الفيديوهات؟ وماذا ينتظر؟
[VIDEO]