تفخيخ طرابلس بقوارب الموت: استهداف الجيش؟ أو الانتخابات؟

مدة القراءة 5 د

فيا موت زُر   إنَّ الحياةَ ذَميمةٌ

                                   أبو العلاء المعري

الموت هو رفيق الطرابلسيّين الدائم. فلا تكاد تُطوى مصيبة حتى تتبعها كارثة، ثمّ فاجعة. من معارك التبّانة وجبل محسن إلى حروب الأزقّة والحواري، إلى المجموعات المتطرّفة، مروراً بتفجير مسجدَيْ التقوى والسلام، وليس انتهاءً بقوارب الموت على أمواج الهروب من الفقر واليأس، بالهجرة غير الشرعية في البحر.

قارب الموت الذي غرق ليل الأحد، وعلى متنه أكثر من 75 شخصاً بينهم أطفال، استشهد منهم حتى الآن 14 حسب البيانات الرسمية، ولا يزال أكثر من 40 في عداد المفقودين ويرجح ان يكونوا شهداء، ليس الأوّل. فمنذ 18 شهراً تقريباً غرق قارب آخر بعدما نفد منه الوقود في عرض البحر، فاستشهد عدد من الأطفال وشباب في زهرة أعمارهم. ومذّاك، وعلى الرغم من تلك الواقعة المأساوية، لم تتوقّف قوارب الهجرة غير الشرعية. وما يلفت النظر أنّها شبه محصورة بطرابلس.

انتشار روايات الشهود الذين كانوا على متن القارب أشعل موجة غضب عارمة من الجيش، وحدث الكثير من الصدامات بين مدنيّين وعسكريين

فلماذا طرابلس؟

لأنّها المدينة الأكثر بؤساً ومعاناة على شاطىء البحر الأبيض المتوسّط مع القهر الممنهج والمتعمَّد. مدينة تعاملت معها الدولة والقابضون على زمام الحكم بعقليّة “القرية الكبيرة”، حيث الحكم للمرابعين السياسيين، أو باعتبارها الخزّان الذي يضخّ في الساحات عشرات ألوف المشاركين، وفي صناديق الاقتراع عشرات ألوف الأصوات. أهلها أرقام وحسب. وعندما نتحدّث عن طرابلس لا نقصد المدينة فقط، بل مداها الحيويّ في الضنيّة والمنية وعكّار، وكما هي عاصمة الشمال فإنّها عاصمة القهر والفقر.

لذلك كان من الطبيعي، في ظلّ شدّة الفقر والفوضى المتعمّدة التي تعاني منها طرابلس، أن تزدهر تجارات الموت على أنواعها، ومنها قوارب الهجرة غير الشرعية. ومع كلّ الحملات التي يقوم بها الجيش والقوى الأمنيّة للحدّ من هذه الظاهرة إلا أنّه لا يكاد يتمّ إلقاء القبض على إحدى الشبكات وتحويلها إلى القضاء حتى يتم إخلاء سبيل أعضائها بعد أيام قليلة أو حتى ساعات غداة “آلو” من كبير ما.

الجديد في هذه الفاجعة هو أنّ الجيش متّهم بـ”القتل العمد”، أمام الرأي العامّ، وهو اتّهام خطير جدّاً، ولا سيّما أنّ العلاقة بين مدينة طرابلس والجيش كانت متوتّرة على الدوام.

جوزيف عون في طرابلس: صفحة جديدة لم تكتمل

منذ أشهر تقوم قيادة الجيش بالكثير من المحاولات لتحسين العلاقة مع مدينة طرابلس وأهلها. تُوِّجت تلك الجهود بزيارة قائد الجيش جوزيف عون إلى طرابلس في شباط الماضي ولقائه مفتي طرابلس والشمال ومجموعة من العلماء، في محاولة منه لفتح صفحة جديدة في العلاقة بين المدينة والمؤسسة العسكرية. استُتبعت الزيارة بتعاون بين الجيش ودار الفتوى عبر تسليم المتّهمين القصّر الذين حاولوا الالتحاق بداعش أو غيرها من التنظيمات الإرهابية.

لا يلغي كلّ ذلك تاريخاً طويلاً من التعسّف والشدّة من قبل الجيش وأجهزة أمنيّة أخرى، بحقّ أهل طرابلس، والاعتقال لسنوات طويلة على الشبهة فقط، ومن دون محاكمات. لذلك سيسري اتّهام الجيش بإغراق القارب عمداً بين أهل المدينة كالنار في الهشيم، حتّى لو كان هذا الاتّهام غير مؤكد. فما بالكم عندما يكون الاتّهام صادراً من شهود عيان كانوا على متن القارب ونجّاهم الله من الموت.

لكن لماذا قد يرتكب الجيش مثل هذه المجزرة؟

هل صدر قرار بأنّ الهجرة غير الشرعية خط أحمر ويجب وضع حدّ لها مهما كلّف الأمر؟

ينفي مصدر عسكري مطّلع لـ”أساس” تماماً نيّة القتل العمد، ويقول إنّ “ثمّة تعليمات عسكرية مشدّدة تمنع الدوريّات العسكرية من الاقتراب من القوارب، بل يتمّ توجيه نداء بالتوقّف عبر الميكروفون مرّات عدّة. وأحياناً قد يهدّد قائد الدورية بإطلاق النار. لكن حتى هذا لم يحصل”.

يكشف المصدر العسكري أنّه “تمّ الاكتفاء بتكرار التحذيرات عبر الميكروفون. هنا حاول سائق القارب القيام بمناورة للالتفاف على زورق الجيش وتجاوزه. لكنّ شدّة الريح وسرعة القارب أدّيا إلى اختلال توازنه، بالإضافة إلى ضعف خبرة سائق القارب، الذي يبلغ طوله 10 أمتار وعرضه 3 أمتار ولا يتّسع إلا لـ10 أشخاص، فكيف بحمولة فاقت 75 روحاً. فكانت النتيجة اصطدامه بزورق الجيش في منتصفه تماماً.

إذاً لماذا اتّهام الجيش؟

يجيب المصدر العسكري أنّ “الأمر اختلط على من كانوا على متن هذا القارب تحت وقع الصدمة، فالاصطدام حصل، لكن من قام به ليس زورق الجيش إنّما قاربهم”، ومع الأسف هناك أطراف سياسية تريد استغلال هذه الفاجعة للتصويب على المؤسسة العسكرية خدمة لأهدافها الخاصة”.

دماء على كرسي الرئاسة

أكّد الجيش على لسان قائد القوات البحرية العقيد الركن هيثم ضناوي فتح تحقيق في القضية. وذلك خلال مؤتمر صحافي ظهر أمس. لكنّ انتشار روايات الشهود، الذي كانوا على متن القارب، أشعل موجة غضب عارمة ضد الجيش، وحدثت الكثير من الصدامات بين مدنيين وعسكريين. ناهيكم عن صوت الرصاص الذي يدّوي في المدينة منذ منتصف الليل، والحجارة التي تنهال على الآليات العسكرية، والتهجم على بعض حواجز الجيش في منطقة القبة التي منها العدد الأكبر من الشهداء والمفقودين،  ما يشكّل نذير شؤم لما يمكن أن يحصل في الآتي من الأيام. ولا سيّما أنّ جزءاً من العونيين شاركوا في الحملة على الجيش وقائده لأسباب لا تخفى على أحد.

إقرأ أيضاً: طرابلس بين هويّتين: حقوق المثليين… والتديّن

فهل هي صدفة أم هناك من فخّخ طرابلس بهذا المركب من أجهزة وأطراف داخلية أو خارجية؟ وما الهدف من هذا التفخيخ على بعد 3 أسابيع من الانتخابات؟ محاولة تطيير الانتخابات من “بوابة سنّيّة” عريضة أم الهدف هو قائد الجيش لقطع طريق بعبدا عليه؟

قد تحمل الأيام المقبلة إجابات عن هذه الأسئلة لأنّ مخطّطاً كهذا لن يقتصر على مركب في بحر طرابلس، بل قد تلحق به مراكب عديدة في البرّ والبحر، وربّما في الجوّ أيضاً.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…