طرابلس بين هويّتين: حقوق المثليين… والتديّن

مدة القراءة 6 د

على هامش المشهد الانتخابيّ العام، وعلى ضفاف المنازلة الكبرى، ثمّة معارك جانبية بين مشاريع متنافرة ومتصارعة. أحدها مشروع الدولة المدنية، وما يستتبعه من إقرار قانون موحّد للأحوال الشخصية، وتشريع الزواج المدني، سواءً كان اختيارياً أم إلزامياً، بالإضافة إلى البند الأكثر سخونة وهو منح المثليّين حقوقاً قانونية.

في مقابل هذا المشروع تظهر قضيّة الحفاظ على الهويّة، وبالتحديد في الشارع السنّيّ الذي يتحسّس طيف واسع منه من فكرة الدولة المدنية. يظهر أحد تجلّيات هذا الصراع في دائرة الشمال الثانية، حيث الثقل السنّيّ الأكبر، وخاصّة طرابلس.

 

مدينة “مُحافِظة”

لطالما اشتُهِرت طرابلس بأنّها مدينة محافِظة. والمقصود بهذا التعبير هو تجذّر الثقافة الإسلاميّة في المدينة، وكذلك القيم والأعراف والتقاليد المنبثقة عنها. وبسبب كثرة الضغوط الأمنيّة والترهيب الفكري الذي مورس على المدينة وعلى أبنائها، كان من البديهيّ أنْ تظهر بعض السلوكيّات التي تنحو نحو الانفتاح، في محاولة لتصدير صورة معاكسة ردّاً على صورة عن “قندهار” أو “تورا بورا”، التي حاول خصوم المدينة تعميمها عنها، لأهداف سياسية انتقاميّة بحتة. بيد أنّ كلّ المشهديّات التي توحي بانفتاح المدينة على القيم الآتية من الغرب تقف عند حدود مشروع الدولة المدنيّة.

حرفوش ليس وحيداً في تبنّيه أفكاراً تُعدّ من المحرّمات في طرابلس، فتمويل المنصّات ومنظّمات الـ”NGO” لأيّ لائحة أو مرشّح مشروط بالموافقة على الأفكار نفسها التي يسوّق لها حرفوش

جمهوريّة عمر حرفوش

من جديد، عاد مشروع الدولة المدنية ليُرخي بثِقله على المشهد الانتخابي في طرابلس مع ترشّح الشخصية المثيرة للجدل عمر حرفوش، وتبنّيه صراحة ومن دون مواربة لمشروع سياسيّ يحمل اسم “الجمهورية الثالثة”، ويدعو إلى علمنة الدولة بالكامل، مع ما يصاحبها من إقرار قوانين جديدة. وقد صرّح حرفوش في المؤتمر الصحافي الذي أطلق فيه حملته الانتخابية أنّ هدفه أنْ يصبح آخر رئيس وزراء سنّيّ للبنان، وأن يُلغي الطائفيّة السياسية بالكامل.

في البداية قوبل المشروع بالسخرية في طرابلس، وحتّى حرفوش نفسه وجد صعوبة كبيرة في تشكيل لائحة. لكنْ مع مرور الوقت بدأت أفكاره تحظى بتأييد متردّد في الشارع الطرابلسي، وتمكّن من تأليف لائحة “الجمهورية الثالثة”.

وعلى الرغم من أنّه لا يزال يواجه ردود أفعال كثيرة، وبمعزلٍ عن تصريحاته وتدويناته المبالغ فيها جدّاً، وهي مقصودة وتندرج ضمن خطّته للتسويق الانتخابي، وبمعزلٍ أيضاً عن الأنباء التي تروّجها ماكينته الانتخابية، والتي تتحدّث عن تصدّره استطلاعات الرأي وخلاف ذلك، إلّا أنّ الرجل استطاع استغلال الأزمة المعيشية الخانقة لاختراق المجتمع الطرابلسي بطرائق عدّة، منها مساهمته بمبلغ ماليّ كبير في مطبخ رمضاني خيري، وتوظيفه لجيش من المندوبين، وغير ذلك.

 

حرفوش ليس وحيداً

بيد أنّ حرفوش ليس وحيداً في تبنّيه أفكاراً تُعدّ من المحرّمات في طرابلس، فتمويل المنصّات ومنظّمات الـ”NGO” لأيّ لائحة أو مرشّح مشروط بالموافقة على الأفكار نفسها التي يسوّق لها حرفوش. وكلّ من سعى إلى الحصول على هذا التمويل كان على علم بهذه الشروط، فمنهم من وافق عن اقتناع، ومنهم من استخدم روح “المكيافيلّيّة” للقبول بأفكار لا يؤيّدها. فالغاية تبرّر الوسيلة. وهناك من اعتبرها شروطاً شكليّة وحسب ليس لها حظّ من النجاح، ولذلك لا ضير من قبولها. ومن بين اللوائح التغييرية في الشمال الثانية، هناك لائحة حُرمت من التمويل لأنّها ضمّت مرشّحاً إسلامياً فاعتُبرت غير مطابقة للمواصفات التمويليّة.

 

الإخوان على خطّ المواجهة

في مواجهة هذا المشروع تظهر الجماعة الإسلامية التي رشّحت أمينها العامّ عزّام الأيّوبي في طرابلس، ومؤسّس الجمعيّة الطبية الإسلامية محمود السيّد في الضنّية. لكنّ الجماعة تواجه مُعضلات جمّة، يأتي في طليعتها غياب التمويل. فحسب معلومات “أساس” أنّ الأمين العام الذي سافر أكثر من مرّة إلى الخارج، لم يحصل على التمويل المطلوب، بسبب الخلافات التي تضرِب التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وأيضاً بفِعل الأجواء التصالحيّة السائدة في الإقليم.

الصورة ستبدو سوريالية في حال حصول عمر حرفوش على أصوات تفضيليّة أكثر من الأمين العام للجماعة الإسلامية، ذات الـ58 عاماً من العمل السياسي

تواجه الجماعة أيضاً مشكلة غياب الماكينة الانتخابيّة المنظّمة بفِعل هجرة روّادها السابقين، والانسحابات النخبويّة الكثيرة من صفوفها خلال السنوات الأخيرة. أضف إلى حضورها الباهت في المناطق الشعبية في طرابلس، التي تُعدّ عصب المدينة الانتخابي. وزاد الطين بلّة ترشّح نجل أسعد هرموش في الضنّية، إذ أدّى إلى انقسام جمهور الجماعة، وميل شطر واسع منهم إلى هرموش، بفضل حضور هرموش الأب الوازن خدماتيّاً في المنطقة خلال العقدين الماضيين.

إلى كلّ ذلك تُضاف الانقسامات الداخلية بين فريقين رئيسيّين: فريق عزّام الأيوبي وعماد الحوت ومؤيّديهما، وفريق آخر يقوده الجهاز الأمنيّ للجماعة الذي يدفع بقوّة للتحالف مع حزب الله وقوى الممانعة، ولا سيّما في ظلّ المفاوضات السعودية الإيرانية، والانفتاح العربي على نظام الأسد. وترتبط قيادات هذا الجهاز بعلاقات وثيقة مع حركة حماس، وبالتحديد مع الجناح المتماهي مع طهران.

علاوة على ذلك، فشل الأمين العام في الحصول على تأييد البيئة الإسلامية، وخاصّة هيئة علماء المسلمين. فقد كان يسعى إلى الحصول على موقف علنيّ مؤيّد له، لكنّ الهيئة لم تقبل، والسبب الأساس هو ميل علماء بارزين فيها إلى اللواء أشرف ريفي.

 

الخطاب الدينيّ هو الحلّ

وسط كلّ هذه المآزق، اتّكأت الجماعة على نبيل بدر في بيروت، وعلى رجل الأعمال المغترب إيهاب مطر، لتمويل القسم الأكبر من حملتها الانتخابية في الشمال. ولمّا كان ذلك غير كافٍ، وجدت الجماعة الحلّ في “تسخين” الخطاب الديني، فلجأت إلى ذراعها الدعويّ، وبدأت الإعداد لإطلاق خطاب سياسي موحّد عِماده خُطب الجمعة والدروس الدينية، ليكون رافداً للخطاب السياسي التسويقي للمرشّحين تحت عنوان الحفاظ على الهويّة في مواجهة مشاريع العلمنة والزواج المدني.

بدأت علائم هذا الخطاب بالظهور في خطبة الجمعة الأخيرة، عبر استغلال حادثة اقتحام المسجد الأقصى، للتسويق لمرشّحي الجماعة على أنّهم حماة الإسلام في البرلمان، وإرجاع الحملة على الجماعة إلى كونها وقفت ولا تزال في وجه التطبيع. وعلى الرغم من أنّ هذا الخطاب قديم وعفا عليه الزمن، إلّا أنّ إدخال مشروع العلمنة في مواجهته يُكسبه مقبوليّة شعبية.

إضافة إلى الجماعة الإسلامية، ثمّة مرشّحون آخرون يمثّلون البيئة الإسلامية، ومنهم أحمد الأمين، عضو المجلس الإسلاميّ الشرعيّ، المرشّح على لائحة كرامي – الصمد، والذي يرفع شعار الحفاظ على الهويّة، ويحذّر في جولاته الانتخابية من المشاريع المريبة التي يتمّ العمل على تسويقها.

إقرأ أيضاً: الانتخابات ورحلة الدم

تبقى الكلمة الأخيرة لصناديق الاقتراع، لكنّ الصورة ستبدو سوريالية في حال حصول عمر حرفوش على أصوات تفضيليّة أكثر من الأمين العام للجماعة الإسلامية، ذات الـ58 عاماً من العمل السياسي والدعويّ والمجتمعي، حتّى لو رسب الاثنان. وهذا السيناريو إنْ حصل ستكون له حتماً تداعيات طرابلسية في المديَيْن القريب والبعيد، وربّما يؤدّي إلى انفجار الجماعة من الداخل.

مواضيع ذات صلة

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…