انتظرت السلطة الساقطة انتهاء فترة عطلة العيد، مفضّلة عدم إزعاج الوزراء والمسؤولين باجتماع من خارج “جدول الأعمال”، لعقد جلسة استثنائية لمجلس الوزراء لبحث مأساة طرابلس وتداعياتها والخيط الرفيع الذي يربطها مع سلسلة توتّرات في المناطق من الشمال إلى الجنوب والبقاع مروراً ببيروت التي شهدت في الأيام الماضية، وفق المعلومات، اشتباكات مسلّحة عنيفة تبيّن أنّها بين مؤيّدين لتيار المستقبل و”الأحباش” (البعض يقول “سرايا المقاومة”)، على بُعد أقلّ من ثلاثة أسابيع من الانتخابات النيابية.
لم ترَ رئاسة الجمهورية ضرورة لعقد جلسة طارئة للمجلس الأعلى للدفاع، ولم تتحرّك رئاسة الحكومة أو مجلس الأمن المركزي فور وقوع الكارثة لتدارك تداعيات الفاجعة فيما تحوّلت طرابلس إلى “منجم” لغضبٍ شعبي عارم كاد يُخرِج الأمور عن السيطرة، وإن تسلّلت منه أجندات خفيّة تُحسِن بالعادة استغلال أيّ مصيبة أو حدث لصبّ الزيت على النار وتهييج الشارع، فكان الهدف هذه المرّة الجيش وعناصره.
وفق المعلومات نشأت فكرة انعقاد مجلس الوزراء يوم أمس بخلفيّة الاطّلاع على ملابسات غرق الزورق قبالة ميناء طرابلس، والاستماع إلى المعطيات كاملة من الجيش بسبب حجم الكارثة وتداعياتها التي قد لا تنتهي قريباً
ألغاز “رحلة الموت”
وفق المعلومات نشأت فكرة انعقاد مجلس الوزراء يوم أمس بخلفيّة الاطّلاع على ملابسات غرق الزورق قبالة ميناء طرابلس، والاستماع إلى المعطيات كاملة من الجيش بسبب حجم الكارثة وتداعياتها التي قد لا تنتهي قريباً.
كانت مشاركة قائد الجيش العماد جوزف عون ومدير المخابرات العميد طوني قهوجي وقائد القوات البحرية العقيد هيثم ضناوي بديهية في هذا السياق، لكنّ تقصّد رئاسة الجمهورية عبر “تويتر” ذكر كلمة “استدعاء” استدعى ردّاً مضادّاً عبر تسريب معطيات في الإعلام تفيد بأنّ اتصالاً جرى بين رئيس الحكومة وقائد الجيش أبدى خلاله الأخير استعداده ورغبته بالحضور.
لكن قبل جلسة مجلس الوزراء كان النائب جبران باسيل قد تكفّل ليل أول من أمس بتوضيح موقفه، وربّما موقف رئاسة الجمهورية أيضاً، من خلال قوله عبر منصّة انتخابية تحت عنوان “دقيقة مع جبران”: “نحن مع الجيش. وما حدن يزايد علينا. لكن مقولة الجيش ما بغلّط مرفوضة. ولأن منحب الجيش نحن نقول هناك عناصر وضبّاط بغلّطوا ولازم يتحاسبوا. وعدم المحاسبة بانفجار المرفأ وبحادثة التليل وبحوادث كثيرة أوصلت الجيش إلى حادثة الزورق، وستوصله إلى أكثر من ذلك إذا بقي الاستهتار”.
لكن ما اعتبره باسيل “استهتاراً” وشبه اتّهام للجيش بمسؤوليّته عن غرق المركب نفاه رئيس الحكومة بشكل غير مباشر رافضاً إلقاء التهم جزافاً “قبل إنجاز التحقيق بعيداً عن الضغط الإعلامي والاستثمار السياسي والشعبوي والانتخابي الرخيص”، مؤكّداً “ثقتنا الكبيرة بحكمة الجيش وقيادته والتحقيقات التي ستقوم بها، ونحن على ثقة بأنّها حريصة على الحفاظ على سلامة أرواح جميع اللبنانيين وعلى صدقيّة التحقيقات التي ستقوم بها”.
ماذا جرى خلال الجلسة؟
خلال الجلسة وبعد كلمة رئيس الجمهورية تحدّث قائد الجيش عارضاً الجهود التي قام بها الجيش لإنقاذ المركب وليس لإغراقه، معتبراً أنّ “استهداف الجيش بالسياسة لغايات انتخابية ومصالح شخصية في هذه الظروف مسيء جدّاً للمؤسسة العسكرية”، مؤكّداً أنّ “التركيز يجب أن يكون على جريمة التهريب وتعريض حياة الأبرياء للخطر”.
ثمّ شرح العقيد ضناوي توقيت انطلاق المركب ونقطته ورصده من قبل رادار الجيش، وعرض الصور التي تُظهر آثار تعرّض طرّاد الجيش لضربات المركب المدني مع شرح مفصّل عن لحظة وصول القوات البحرية ومحاولة ثني القبطان عن إكمال طريقه مع وجود تعليمات صارمة بعدم إطلاق النار في الهواء أو التعرّض للهاربين بشكل غير شرعي ومحاولة التفاوض معهم للعودة إلى الشاطئ.
أثبت العرض العسكري خلال الجلسة النتائج الكارثية لإصرار القبطان على “الاحتيال” والمناورة لإكمال طريقه، إضافة إلى “حالة” المركب التي لا تسمح له بقطع آلاف الأميال وبوزن زائد بسبعة أضعاف أدّى إلى غرقه فوراً، فيما عناصر الجيش عملوا بالسرعة نفسها على رمي سترات النجاة وإنقاذ من أمكن إنقاذهم وبلغ عددهم 45 شخصاً. وقد تبيّن، وفق المعلومات، عدم تزوّد مركب الجيش بكاميرات مراقبة، ولم يتمّ تصوير فيديوهات توثّق عملية المطاردة والتفاوض.
تمّ الكشف خلال الجلسة أنّه في عام 2021 تمّ رصد 37 عملية تهريب بهدف الهجرة غير الشرعية نحو دول أوروبية ضُبِط منها 25 حالة من دون وقوع أيّ حادث، فيما تمكّن 12 مركباً من الهروب. وفي أحيان كثيرة كان يتمّ التساهل والسماح باجتياز الحدود اللبنانية البحرية (12 ميلاً) بعد التأكّد تقريباً من متانة المركب. وأنّه في عام 2022 تمّ رصد سبع عمليات أُوقف خمس منها، وتمكّن مركب واحد من عبور المياه الإقليمية وصولاً إلى غرق الزورق الأخير الذي تقع المسؤوليّة المباشرة عنه على عاتق قبطان المركب، فيما لم تسجّل أيّ محاولة إجبار لأيّ مركب على العودة بالقوّة أو بالسلاح.
أثبت العرض العسكري خلال الجلسة النتائج الكارثية لإصرار القبطان على “الاحتيال” والمناورة لإكمال طريقه، إضافة إلى “حالة” المركب التي لا تسمح له بقطع آلاف الأميال وبوزن زائد أدّى إلى غرقه فوراً
عدد المفقودين غير معروف
حتى الآن لا يملك أيّ جهاز رسمي أو أمنيّ رقماً دقيقاً لعدد المفقودين وركّاب القارب، مع تسجيل مفارقة تتعلّق بتضارب في الأرقام بين الأجهزة الأمنيّة التي أعدّ بعضها تقريراً مفصّلاً عن الحادث، ومع تأكيد مصدر معنيّ صعوبة العثور على جميع المفقودين. فيما تستمرّ وحدات الجيش البحرية والجوية بمساعدة من قوات “اليونيفيل” في تقفّي أثر المفقودين الذين تضاءلت بالكامل فرص نجاتهم.
تحديد نقطة غرق المركب
تفيد المعلومات أنّه تمّ تحديد نقطة غرق المركب في البحر، وسيؤدّي انتشاله وإجراء دراسة تقنية عليه، حتى في حال تعرّضه لبعض التلف، إلى إثبات معطيات الجيش التي قدّمها حول تسبّب القبطان بغرق المركب.
هذا ويُتوقَّع أن يميط تحقيق الجيش، الذي يتولّاه القضاء العسكري بإشارة من مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي، اللثام عن الكثير من جوانب هذه المأساة.
تمّ الاستماع حتى الآن إلى إفادة قبطان المركب السوري م.ج الذي جرى توقيفه، وسيجري تباعاً الاستماع إلى العسكر والضابط المسؤول، مع توقّع تأخّر الاستماع إلى بعض الناجين بسبب حساسية القضية وتقديراً لمحنتهم.
يتناول تحقيق الجيش بشكل أساس حسم الجهة المسؤولة عن شراء مركب الموت وإعداده للانطلاق نحو إيطاليا، وتحديد عدد المغادرين والأسباب التي منعت الجيش من وقف انطلاقه بعدما أعلن قائد القوات البحرية العقيد ضناوي أنّ الجيش كانت لديه معطيات عن هذا الأمر، لكنّه لم يتمكّن من تحديد نقطة الانطلاق.
ترى أوساط مطّلعة أنّ حجم الكارثة يجب أن لا يحجب الهدف الأساس، وهو تبيان “مسؤولية المهرّبين وإدارتهم لبيزنس الهجرة غير الشرعية وجشعهم الذي لا حدود له والذي يدفعهم إلى تقديم طمعهم بالمال والدولارات على حساب أرواح الأبرياء. وهؤلاء غالباً ما توقفهم الأجهزة الأمنيّة، ثمّ يجدون وسطاء من أهل السياسة يخرجونهم من السجون”.
كما لوحظ تعمّد مقصود من المسؤولين عن “رحلة الموت”، بعدم تحديد العدد الحقيقي للركاب، وهو ما يشكّل إدانة مباشرة لهم تؤكّد فرضية الحمولة الزائدة.
حكومة مأزومة
شكّل غياب أيّ مسؤول أو وزير أو ممثّل للرئاسات الثلاث في مسيرات تشييع ضحايا “زورق الموت” الثماني حتى الآن أكبر إدانة لسلطة ارتأت إدارة الأزمة “عن بعد” خوفاً من ردّات فعل “تبتلعها” كما ابتلع الموج فقراء طرابلس واليائسين الباحثين عن حياة حتى في قعر البحر.
إقرأ أيضاً: أهل طرابلس: دمنا ليس ماءً
في المشهد العامّ بدت الحكومة أمس في “قمّة” الضعف والإحراج، لكن كالعادة، بتوصيفها، “الدني فقط عم بتشتّي”. وظهرت مأزومة ومحشورة وفاقدة للمبادرة: في القصر الجمهوري “جنازة” متأخّرة لضحايا سلطة الإنكار البارعة في دفع اللبنانيين بأرجلهم نحو حتفهم. والأنكى سلطة “تبرطل” أهل الشمال وتحاول تنفيس غضبهم بـ ” مجلس إنماء” الأرجح لن يرى النور أبداً!
من جهة أخرى في مجلس النواب مسرحية فاشلة ومفضوحة أبطالها الذين يحوكون أشنع قانون سيشرّع سرقة أموال المودعين، ثمّ لدواعٍ انتخابية ومزايدات رخيصة حاولوا الإيحاء بقلبهم طاولة “الكابيتال الكونترول” تحت ضغط تحرّكات شعبية لجمعية حماية المودعين والنقابات وقوى معارضة طوّقت أمس كلّ مداخل مجلس النواب. وقد علم “أساس” أنّ نواباً اتّصلوا بمفاتيح التحرّك محاولين ثنيهم عن منع النواب من الوصول إلى قاعة اللجان مع وعد بالسماح بحضور ممثّلين عنهم، لكنّ القرار كان حاسماً بفرط عقد الجلسة مهما كان الثمن.