السعوديّة و”الدولة”.. إيران و”الدويلة”

مدة القراءة 6 د

يكرّر حزب الله في كلّ مناسبة هجومه على المملكة العربية السعودية ودورها في لبنان. كان آخر هذه الهجومات قبل أيام عندما أطلق جيشه الإلكتروني وإعلامه لمهاجمة حفل العشاء الذي أقامه السفير السعودي وليد البخاري العائد إلى لبنان واستقباله رؤساء الحكومات السابقين ورؤساء الكتل النيابية وزيارته للرئيس اللبناني ميشال عون في بعبدا.

جلّ ما يزعج حزب الله من الوجود السعودي في لبنان غير سياسي، لعلمه أنّ المملكة لا تتدخّل بالتفاصيل السياسية للبنان، وتؤكّد احترام خيارات شعبه. فلا رواتب ولا أكل ولا شرب ولا صواريخ ولا ميليشيات تدعمها الرياض في لبنان بخلاف ما يجاهر به الأمين العام لحزب الله الذي قال يوماً: “أكلنا وشربنا ورواتب مقاتلينا وصواريخنا تأتي من الجمهورية الإسلامية في إيران”. إذاً لماذا أزعجت عودة البخاري حزب الله هذه المرّة وهو يعلم تماماً أنّها تصبّ في مصلحة “عروبة” لبنان و”دولته الشرعية”؟

جلّ ما يزعج حزب الله من الوجود السعودي في لبنان غير سياسي، لعلمه أنّ المملكة لا تتدخّل بالتفاصيل السياسية للبنان، وتؤكّد احترام خيارات شعبه

أستذكر ما قاله لي يوماً في أحد اللقاءات دبلوماسي غربي من أصول عربية خلال نقاش مطوّل دار بيننا حول السياسة الإيرانية في المنطقة. ولفتني يومذاك إلى نقطة مهمّة بقوله: “إيران لا يمكنها مواجهة الدول عسكرياً، تجاربها في الحروب منذ ثورة الخميني لا تتعدّى تجربة الحرب العراقية – الإيرانية التي خرجت منها طهران خاسرة. يعتمد نظام طهران على التغلغل في الدول المستهدَفة لتفتيتها والسيطرة عليها من الداخل”. هذه الحجّة منطقية وتتجلّى اليوم بوضوح. ما يعيشه لبنان من أزمات هو قرار سياسي بحت. تختلف أدواته بين غطاء لطبقة سياسية فاسدة سمح لها بالاستفحال في فسادها، واقتصاد أسود في الموازاة يقوده حزب الله. وكانت النتيجة بين هذا وذاك ما يعيشه اللبنانيون اليوم. أمّا الهدف منه فهو تطويعهم انطلاقاً من سياسة تجويع يستتبعها رضوخ لواقع يسمح للدويلة بالتحكّم بالدولة ورعاياها على المديين القصير والبعيد.

ألم يتهم حزب الله بتخزين نيترات الأمونيوم في المرفأ؟ ألم يكن حزب الله وراء تهريب الوقود المدعوم إلى سوريا؟ ألم يكن حزب الله وراء تهريب القمح المدعوم إلى نظام الأسد؟ ألم يكن حزب الله ولا يزال مَن يسيطر على المرفأ والمطار حيث الداخل إليهما والخارج منهما مجهولان للّبنانيّين؟

بأيّ حال تطول اللائحة فيما الهدف واحد: تطويع اللبنانيين بلقمة عيشهم.

الانزعاج من “دعم الشعب”

من هنا، يتبيّن سبب انزعاج الذراع الإيراني في لبنان من عودة السفير السعودي إلى بيروت. فقد ورد في البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية اللبنانية في أعقاب لقاء البخاري مع رئيس الجمهورية ميشال عون أنّ السفير السعودي أكّد “دعم الشعب اللبناني في الظروف الصعبة التي يمرّ بها”. ولا شكّ أنّ “دعم الشعب اللبناني” هو ما يزعج حزب الله. فالكلام تثبته الأفعال. وانطلاقاً من هذا، كان لقاء البخاري بنظيرته الفرنسية لمتابعة التنسيق في المجال الإنساني لدعم الشعب اللبناني من مختلف الطوائف والمذاهب انطلاقاً من اتفاق تمّ بين باريس والرياض في شباط الماضي “على تمويل مشاريع إنسانية أوّليّة لمساعدة الشعب اللبناني على شكل مشاريع خيرية وإنسانية عدّة تُعنى بتوفير مساعدة مباشرة لعدد من المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأوّليّة في لبنان، ورفع مستوى الرعاية الصحية الموجّهة لمكافحة جائحة كورونا، ودعم بعض المنشآت التعليمية الأساسية، والمساهمة في تمويل أعمال المنظمات العاملة على توزيع حليب الأطفال والغذاء للفئات الأكثر تضرّراً”.

إيران تدعم الدويلات على حساب الدول من منظورها الأحاديّ لـ “إمبراطوريتها” التي تمرّ بالعراق فسوريا ولبنان وغزّة واليمن

هكذا يتأكّد يوماً بعد يوم أنّ التعاطي السعودي مع لبنان يختلف تماماً عن الصورة التي يحاول حزب الله تصويرها. فالرياض أثبتت احترامها للبنان بتعاطيها معه من “دولة إلى دولة”، وحرصها على الرغم من كل شيء على احترام البروتوكولات الدولية. وأكبر دليل على ذلك، ومع كلّ المآخذ التي لدى الرياض على حليف حزب الله، زار البخاري بعبدا والتقى الرئيس عون.

لا ثقة بمؤسسات الدولة

صحيح أنّ السعودية ما عادت ترسل مساعداتها إلى المؤسسات الرسمية اللبنانية لأنّها لا تثق بها بعدما فاحت منها روائح الفساد والهدر والصفقات، إلا أنّها لا توجّهها أيضاً إلى أحزاب أو أفراد أو طوائف دون أخرى، بل إلى جمعيات إنسانية تُعنى بـ”الانسان اللبناني” بالتنسيق مع الفرنسيين.

لا ترسل السعودية السلاح والدولارات والمحروقات إلى حزب أو فئة، ولا تستثمر في أيّ فريق ماليّاً وعسكرياً بخلاف ما تفعله إيران جهاراً.

السعودية تثبّت حضورها بدعم مفهوم “الدولة”. السيناريو اللبناني غالباً ما كانت قراءته تمثّل الرؤية الخارجية للقوى الإقليمية. وذلك لطبيعة لبنان المذهبية والحزبية، ولموقعه الجغرافي، وخصوبة “أرضه” لاستقطاب الأزمات.

فمنذ العام 2005 ولبنان يتخبّط بين مشروعين اثنين، مشروع المستقبل ومشروع العصور القاتمة. مشروع “الدولة” ومشروع “الدويلة”.

لا يخفى على أحد المشهد اللبناني الشامل: طرف يدعو إلى دولة قادرة تحتكر السلاح والقوة على كلّ أراضيها بحدودٍ مُرسّمة وشعبٍ انتماؤه وطني لا مذهبي أو طائفي أو عرقي. وطرف آخر انتماؤه خارجي سياسياً وعسكرياً.

إقرأ أيضاً: إيران وأعوانها بلا غطاء

المسألة حسابيّة وبسيطة. وتتبع حبل المنطق العلمي: إيران تدعم الدويلات على حساب الدول من منظورها الأحاديّ لـ “إمبراطوريتها” التي تمرّ بالعراق فسوريا ولبنان وغزّة واليمن. تقدّم الدعم المالي والعسكري لميليشيات يكفي وجودها في المعادلة لضرب مفهوم الدولة. فالرابط بين حزب الله وحماس وفتح الإسلام (يوماً ما) والجهاد الإسلامي والحوثيين والميليشيات العراقية الموالية لطهران هو أنّ هذه الفصائل جميعها أُنشئت لبناء دويلات تنسف مفهوم الدولة وتقدّم الطاعة لليد الإيرانية التي تطعمها. والتقاؤها كلّها في المعادلة الحسابية التي ذكرناها آنفاً يعزّز النظرية القائلة بوجود “دويلة حماس”، ودويلة “حزب الله”، ودويلة “فتح الإسلام” في نهر البارد سابقاً، ودويلة الحوثيين في اليمن، وبدور الميليشيات العراقية في منع قيام الدولة العراقية القادرة.

على الضفة الأخرى، مشروع معتدلٌ، داعمٌ للـ”دولة”، أكيدٌ من أنّ الخلاص لا يأتي إلا من باب الشرعيّة التي وحدها تضبط الإيقاع في منطقة، إن لم تضرب الدولة فيها بيد من حديد، يتحوّل المشهد إلى ما يبدو عليه اليوم.

*كاتب لبناني مقيم في دبي

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…