لا مصلحة أميركية بسقوط بوتين

مدة القراءة 9 د

صموئيل شاراب Samuel CharapForeign Affairs

 

قبل 24 شباط الماضي، عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراره المصيري بمهاجمة أوكرانيا، كان واضحاً الهدف الأساسي للسياسة الأميركية بإزاء الأزمة. لقد سعت واشنطن إلى ردع الغزو بزيادة تكاليف أي عملية عسكرية يُطلقها بوتين، عبر التهديد بالعقوبات، وهي اقتصادية إلى حدّ كبير. لكن الردع فشل. اتخذت الولايات المتحدة، مع حلفائها وشركائها، إجراءات كاسحة ردّاً على العدوان الروسي، وفرضت عقوبات غير مسبوقة، بما في ذلك تجميد احتياطيات البنك المركزي، وتقديم معدّات بمئات ملايين الدولارات لدعم الجيش الأوكراني. لكنّ الإلحاح في احتواء بوتين أضفى ظلالاً على السؤال المهم حول ماهية الأهداف الأميركية وأفضل السبل لتحقيقها.

أهوال الحرب، بما في ذلك تدمير مناطق حضرية كبرى مثل مدن خاركيف وماريوبول، وتشريد الملايين، وعدد القتلى المدنيين، لا يسعها إلا أن تثير الغضب. أما ملاحظة الرئيس جو بايدن غير المكتوبة في وارسو يوم السبت في 26 آذار الماضي – متحدثاً عن بوتين قائلاً: “من أجل الله، هذا الرجل لا يمكن أن يبقى في السلطة” – فتعكس شعوراً سائداً إلى حدّ ما بأن على الولايات المتحدة إعطاء الأولوية لمعاقبة بوتين، أو حتى السعي لإسقاطه (على الرغم من أن البيت الأبيض نفى أن تكون هذه سياسة أميركية). لكن على واشنطن أن تكون حذرة من دعوة تغيير النظام، بحيث يبدو للوهلة الأولى أنه يقدّم علاجاً عادلًا وفعّالاً، في حين أن التجربة الأميركية في العراق وليبيا وأماكن أخرى أثبتت أنها لا تحقّق النتائج المرجوة أبداً. بدلاً من ذلك، على صانعي السياسة في واشنطن أن يتعاملوا مع نوعين مختلفين من الأهداف:

أنجز بوتين السلام بشروطه بعد حملة طويلة وشاقة، سيكون ذلك نكسة استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة

– على المدى القريب، ما تزال الأولوية هي حرمان بوتين من الانتصار في ساحة المعركة، وتجنب تصعيد الصراع، والحدّ من تكاليفه الإنسانية والاقتصادية.

– وعلى المدى الطويل، على واشنطن تشكيل السلوك الروسي بطريقة تقلّل من المخاطر على أميركا، وعلى مصالحها الجيوسياسية، والاستقرار الدولي، كما احتمالات نشوب الصراع الإقليمي في المستقبل.

التحدّي الرئيسي اليوم، أنه من غير المرجّح أن تتغلّب المقاومة الأوكرانية الشجاعة – حتى مع الضغط الغربي المتزايد على موسكو – على مواضع التفوق العسكري الروسي، ناهيك عن الإطاحة ببوتين. وبدون نوع من الاتفاق مع الكرملين، ربما تكون أفضل نتيجة هي حرب طويلة وشاقة، من المرجّح أن تكسبها روسيا على أيّ حال. ومثل هذا الصراع الذي طال أمده من شأنه أن يعزّز المستوى المتطرّف الحالي من العداء بين روسيا والغرب، ما يقوّض المصالح الأميركية على المدى الطويل، وهي التي تتمثّل في الاستقرار الإقليمي والعالمي. وبالتالي سيكون من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، على الولايات المتحدة أن تحقّق أهدافها سواء أكانت غلى المدى القصير أو الطويل إذا استمرت الحرب لأشهر أطول. وذلك بغضّ النظر عن أن التوصل إلى حلّ وسط مع بوتين بعد المذبحة التي أطلق العنان لها، هو أمر مقيت، إلا أنه ينبغي العمل على تسوية تفاوضية للصراع عاجلاً وليس آجلاً.

 

انتصار روسيا الدموي

تعثّر الحملة الروسية في البداية، لا يعني أنها ستخسر هذه الحرب. يبدو أن بوتين قد تحوّل من السعي لتغيير النظام إلى استراتيجية إلحاق الأذى بأوكرانيا، لإجبار الرئيس فولوديمير زيلينسكي على قبول شروطه من أجل السلام، بما في ذلك الاعتراف بمناطق دونيتسك ولوهانسك بشرق أوكرانيا كدولتين مستقلتين. ولا يزال بإمكان روسيا انتزاع النصر. لكن سيكون بلا شك انتصاراً وحشياً ودموياً، وباهظ الثمن في النهاية. فالجيش الروسي، حتى بعد تكبده الخسائر، ما يزال لديه القدرة على تحقيقه.

إذا أنجز بوتين السلام بشروطه بعد حملة طويلة وشاقة، سيكون ذلك نكسة استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة. أحرزت أوكرانيا وروسيا بعض التقدم في محادثاتهما الثنائية، لا سيما فيما يتعلّق باحتمال حياد أوكرانيا في المستقبل، لكن يبدو أنهما واجهتا بعض الحواجز التي لا يمكن التغلب عليها. فموسكو تصرّ على توسيع سلطة وكلائها الانفصاليين في دونيتسك ولوهانسك إلى ما هو أبعد بكثير من خط السيطرة قبل الحرب، وإجبار أوكرانيا على الاعتراف بهما كدولتين مستقلتين. كييف لن تقبل أبداً.

يمكن أن تساعد واشنطن على اختراق الطريق المسدود، باستعمال العقوبات لإجبار روسيا على التخلي عن مطالبها المتطرّفة، وتخفيف بعض العقوبات لدعم اتفاقية سلام لا تتجاوز الخطوط الحمراء في كييف. وقد رحّب بعض المراقبين باحتمال نشوب حرب طويلة الأمد كفرصة لإضعاف روسيا بشكل كبير، وتقويض نظام بوتين. لكنّ الحقيقة هي أنّ بوتين قد تسبّب فعلاً بضرر مذهل في قوّة بلاده، ومكانتها، وآفاقها الاقتصادية. قد تؤدّي حرب طويلة في أوكرانيا إلى دفع مسار تراجع روسيا وتهميشها إلى مدى بعيد جداً، وبسرعة كبيرة – مما يحوّل روسيا إلى نسخة ضخمة من كوريا الشمالية. وهو ما يهدّد ثلاثة مصالح أميركية رئيسية طويلة المدى.

لا مصلحة في انهيار روسيا

أولاً، لدى واشنطن مصلحة في الاستقرار على المدى الطويل، وفي السلام الدائم في أوكرانيا ما بعد الحرب، وكذلك في محيط روسيا، لتقليل احتمال نشوب صراع مثل هذا في المستقبل. وهذا إضافة إلى الجهود المطلوبة لتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية الضخمة لتحقيق الاستقرار في أوكرانيا، ويتطلب ذلك إجراء مشاورات مع جميع الأطراف بمن فيهم روسيا.

يجب أن تهدف المحادثات إلى الاتفاق على معالم الطريق التي من شأنها تقليل مخاطر اندلاع حرب مستقبلية بين روسيا وجيرانها. ستكون هذه عملية طويلة، شبيهة بالمحادثات التي تمخضت عن وثيقة هلسنكي النهائية Helsinki Final Act، وهي اتفاقية لعموم أوروبا لعام 1975، وتغطّي مجموعة من القضايا الأمنية والإنسانية. قد تقع حروب أخرى، على سبيل المثال، في بيلاروسيا – إذا سعى زعيم بيلاروسيا في المستقبل إلى إبعاد بلاده عن حضن روسيا – أو في جورجيا، ما لم يكن هناك هيكل أمني معمول به لإدارة المنافسة الجيوسياسية، وتحفيز الحلّ السلمي للنزاعات. لن يترتب على هذا الاتفاق انفراج جديد مع روسيا، أو إنهاء العلاقات المتوترة والعدائية في بعض الأحيان. لكنه سيؤسّس الحدّ الأدنى من الاستقرار بين الخصوم.

ثانياً، على الرغم من أنه يجب على الولايات المتحدة وحلفائها تحميل روسيا مسؤولية الحرب، سيكون من المهم تجنّب تحويل روسيا إلى حالة اقتصادية صعبة Basket Case، أو عنصراً مفسداً في المجتمع الدولي لا يمكن إصلاحه، أو كليهما. ستكون حتماً موازنة صعبة. من المرجح أن تبقى بعض العقوبات وغيرها من الإجراءات المفروضة على روسيا بسبب عدوانها. لكنّ صدمة اقتصادية شديدة بما فيه الكفاية يمكن أن تزعزع استقرار البلاد، وتعود بروسيا إلى السيناريو المفزع في تسعينيات القرن الماضي، عندما غرقت في حالة من الفوضى.

خلصت الولايات المتحدة إلى أن روسيا الضعيفة، غير القادرة على السيطرة على أراضيها، كما على ترسانتها النووية الكبيرة، من شأنها أن تشكّل تهديداً خطيراً للأمن القومي الأميركي

في ذلك الوقت، خلصت الولايات المتحدة إلى أن روسيا الضعيفة، غير القادرة على السيطرة على أراضيها، كما على ترسانتها النووية الكبيرة، من شأنها أن تشكّل تهديداً خطيراً للأمن القومي الأميركي. ثم إنّ الاضطراب في روسيا من شأنه أن يدمّر اقتصادياً عدداً من الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على التحويلات المالية من موسكو، وعلى العلاقات الاقتصادية الأخرى معها.

حتّى لو لم تتحوّل روسيا إلى حالة العجز الاقتصادي، قد تصبح لاعباً مارقاً في الساحة الدولية على غرار كوريا الشمالية، وقد يؤدّي ذلك إلى انهيار الكثير مما تبقى من النظام متعدّد الأطراف، بما في ذلك نظام عدم الانتشار النووي، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وإذا كان الاقتصاد الروسي منفصلاً إلى حدّ كبير عن النظام المالي الدولي، فلن يكون لموسكو سبب وجيه لكبح جماح نفسها عن الردّ على البنوك والشركات الغربية والمؤسسات المالية الأخرى بقدراتها السيبرانية الكبيرة.

ثالثاً، على الرغم من أنّ العدوان الروسي سيجعلها أكثر اعتماداً على الصين بغض النظر عما تفعله واشنطن الآن، إلا أنّ الولايات المتحدة لديها مصلحة طويلة الأجل في تجنّب القطبية الثنائية الجديدة. فاعتماد روسيا كلياً على الصين – الراغبة في ضمان نظام بوتين – يمكن أن يجلب الدولتين إلى تحالف فعلي لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. وهو ما سيفاقم تحدّيات واشنطن في تنافسها طويل الأمد مع بكين.

 هذه المصالح الثلاثة طويلة المدى: تحقيق الاستقرار الإقليمي، وثني روسيا عن التحوّل إلى مارق دولي، واستبعاد القطبية الثنائية الجديدة، ينبغي ألا توقف صانعي السياسة الأميركية عن تحميل بوتين ونظامه عواقب الحرب. لكنّ التوصل إلى سلام عن طريق التفاوض في الأسابيع المقبلة، بما يسمح بتخفيف بعض العقوبات، سيكون خطوة أولى ضرورية نحو تحقيق المصالح الثلاثة المشار إليها.

 

رؤوس باردة

يدعو عدد متزايد من المحللين والسياسيين في واشنطن إدارة بايدن إلى تبنّي تغيير النظام في روسيا بوصفه هدفاً مركزياً للولايات المتحدة. هذا أمر مفهوم. لكنّ سياسةً رسميةً تدعو لتغيير النظام – أو حتى التأييد الضمني له – يمكن أن تأتي بنتائج عكسية على الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى أوكرانيا وحتّى الشعب الروسي.

لطالما افترض الاستراتيجيون الروس أنّ أيّ محاولة غربية للإطاحة بالحكومة ستنطوي على جملة أمور: من التهديدات على أطراف روسيا، إلى الحرب الاقتصادية، وإثارة الاضطرابات الداخلية، وأخيراً، الهجوم العسكري المباشر.

إقرأ أيضاً: بعد أوكرانيا.. هل انتهى عصر الدبّابات؟

وإذا كان الكرملين مقتنعاً بأن السياسة الأميركية تهدف إلى تغيير النظام، فمن المرجح أن يردّ بقوة. ليس مرجحاً أن يسقط بوتين دون قتال، ضدّ أعداء محليين أو أجانب. ما تزال الدولة الروسية قادرة على ممارسة قمع عنيف كبير في الداخل، وعلى القيام بمزيد من العمليات العدوانية في الخارج، أكثر مما أظهرته خلال الشهر الماضي في أوكرانيا.

أثارت مغامرة بوتين القاتلة غضباً مفهوماً، لكنّ الأفكار الهادئة ستكون ضرورية لمتابعة المصالح الأميركية على المديين القصير والطويل.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…

إغناتيوس: قطر تقود جهود تشكيل حكومة انتقاليّة في سوريا

كشف ديفيد إغناتيوس المحلّل السياسي في صحيفة واشنطن بوست أنّ “قطر، التي كانت لفترة طويلة داعمة سرّية لهيئة تحرير الشام، تقود الجهود العربية لإنشاء حكومة…