الشاطر بوتين!

مدة القراءة 9 د

يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشرعن الغزو المتواصل لأراضي الجارة أوكرانيا متسلّحاً بتاريخ سوفياتي حافل بالتمدّد والانتشار. يريد بوتين تقليد ليونيد بريجنيف الذي اخترق دول أوروبا الشرقية التزاماً بتعليمات العقل المخطّط جوزف ستالين. يستفيد الرئيس الروسي من خصوصيّة الجيوبوليتيك الروسية: أقلّيات روسية في كلّ مكان تنتظر مَن ينجدها ويعيدها إلى الوطن الأمّ، فلِمَ لا يكون هو الأسطورة الروسية الجديدة؟

يذكّرنا بوتين بالأقليّات الروسية المضطهَدة في دول الجوار التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية القديمة، وبأنّ قمع هذه الأقليّات في جزيرة القرم هو الذي حرّك قواته باتّجاه كييف لتلقينها الدرس. سبق أن فعل بوتين ذلك عام 2008 مع جورجيا، ثمّ عام 2014 في شرق أوكرانيا، لكنّه قرّر حسم المسألة نهائيّاً، كما يبدو، من خلال هذه العملية العسكرية الواسعة التي تنفّذها قواته تحت عنوان حماية الأمن القومي السوفياتي وإعادة إحياء التاريخ.

موسكو محقّة في قلقها. حلف شمال الأطلسي كبر وزاد عدد دوله إلى أكثر من الضعف خلال 25 عاماً مع التحاق دول حلف وارسو والجمهوريات المستقلّة في شرق أوروبا بالتكتّل العسكري

ناقض سيّد الكرملين نفسه أكثر من مرّة، إذ نفى التخطيط لغزو أوكرانيا قبل أسبوعين، لكنّه هدّد باتّخاذ إجراءات عسكرية تتصدّى لِما وصفه بـ”توسّع الناتو نحو الحدود الروسية”. وبالتالي فإنّ ما حرّك القوات هو الاختراقات التي يسجّلها الأطلسي في حدائق موسكو الخلفيّة، والذريعة هي حقوق الأقليّات.

عندما صعّد الغرب ضدّه ردّاً على مهاجمة الجار الأوكراني، هدّد هذه المرّة بحرمان أوكرانيا من “وضع الدولة”، معتبراً أنّ العقوبات الغربية التي تُفرض على روسيا هي إعلان حرب. بعد انطلاق العمليات العسكرية قال وزير خارجيّته سيرغي لافروف، الذي سبق أن سخر من إعلاميّ سأله عما إذا كانت بلاده ستهاجم أوكرانيا، إنّه إذا ما تخلّت أوكرانيا عن سلاح المقاومة فنحن على استعداد لمحاورتها. حرام على أوكرانيا المقاومة ومواجهة الاعتداء العسكري الروسي على أراضيها، والدفاع عن نفسها، حسب قواعد القانون الدولي، وحلال على موسكو أن تلعب ورقة المادة 51 من الجزء السابع في ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على “حقّ الدفاع المشروع عن النفس” وهي تتوغّل في الأراضي الأوكرانية.

أيّ رواية روسية سنصدّق: الحقوق التاريخية؟ أم الدفاع عن الأقليّات؟ أم حقّ الدفاع عن النفس؟ أم مواجهة التمدّد الأطلسي باتّجاه النفوذ الروسي في دول الجوار التي انسلخت عن روسيا السوفياتية قبل 3 عقود؟

تحييد أوكرانيا أو ابتلاعها؟

الرسالة في العلن هي تحييد أوكرانيا ونزع سلاحها، وقبولها بالحقيقة القائمة على الأرض في القرم. لكنّ الرسائل البوتينيّة التي يتلقّفها الغرب تقول إنّه يريد قطع الطريق على تمدّد الأطلسي في حوض البحر الأسود وأوروبا الشرقية وسحب البنى التحتية العسكرية للحلف من أوروبا الشرقية وإعادتها إلى حدود العام 1997، ورفض إقامة قواعد عسكرية غربية في هذه الجمهوريات، وطمأنة موسكو إلى أنّ أميركا وأوروبا تدركان حجم تداخل المصالح والملفّات بينهم وقيمة الأوراق الاستراتيجية التي تملكها روسيا في المواجهة.

موسكو محقّة في قلقها. حلف شمال الأطلسي كبر وزاد عدد دوله إلى أكثر من الضعف خلال 25 عاماً مع التحاق دول حلف وارسو والجمهوريات المستقلّة في شرق أوروبا بالتكتّل العسكري. والآن تدور نقاشات حول انضمام أوكرانيا وفنلندا وجورجيا، الأمر الذي سيكرّس النفوذ الأميركي في البحر الأسود.

لكنّ للحقيقة جانب آخر هو التالي:

– فتح بوتين علبة الباندورا التي أُغلقت عام 1815 في مؤتمر فيينا. وعلى الرغم من أنّ فرنسا كانت قربان المؤتمر قبل قرنين، فإنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الذي يتوسّط لدى موسكو لوقف حربها ضدّ أوكرانيا اليوم.

– أعطت حقبة “عصبة الأمم” روسيا السوفياتية “حبة وزيادة” خلال رسم الخرائط الجديدة في العالم، ثمّ تُوِّج ذلك بتفاهمات يالطا وصفقات تقاسم نفوذ معدّل بعد الحرب العالمية الثانية بين أميركا وروسيا على حساب تراجع الدور والثقل الأوروبيّين خلال تقاسم قطعة الجبن.

– نجحت روسيا في الصمود لأكثر من 4 عقود في مواجهات الحرب الباردة مع الغرب، وأطبقت يدها على مئات الآلاف من الكيلومترات المربّعة، وامتدّ نفوذها الجيوسياسي. لكنّ سقوط الأسطورة السوفياتية وتفكّكها سمحا بتموضع أميركي أوروبي جديد في الحدائق الروسية، فشكّلت الحقبة التي أعقبت ذلك الغصّة الروسية والعِقدة التي رافقت الكرملين وقياداته بانتظار لحظة الانقضاض من جديد واسترداد ما خسره الروس بين عاميْ 1990 و2000.

 

وصل بوتين إلى الحكم عام 1999 بعد تنازل سلفه بوريس يلتسين عن منصبه محمّلاً بعقدة استرداد ما هو للروس، كما قال لنا في خطابه قبل ساعات من إعطاء أوامره باقتحام الدولة الجارة. وأوجز هدف العملية بأنّه يندرج في الإطار التالي، متوجّهاً للأوكرانيين: “تجاوزتم حقوقنا بما فيه الكفاية، واعتديتم على أراضينا طوال ثلاثين عاماً وحان وقت الحساب”.

الإجابة مهمّة أيضاً على أسئلة من نوع: كيف وصل الرئيس الروسي إلى كلّ هذا الثقل في قلب المعادلات؟ وأين فتح الغرب وقياداته الطريق أمامه؟

– تطلّع بوتين إلى استرداد ما خسرته روسيا لمصلحة الغرب في العقدين الأخيرين. وقد وضع استراتيجية تحرّك مبرمجة باتجاهين:

1- داخلية تقوم على إنجازات اقتصادية إنمائية ضخمة تعطيه سياسياً ما يريد.

2- وخارجية أساسها عقود وصفقات تجارية وسياسية وأمنيّة مع أوروبا تضعها تحت رحمة الغاز الروسي، وتُلزمها بقبول التمدّد والانتشار الإقليميّين في مناطق أخذها الغرب في القوقاز وآسيا الوسطى وشرق أوروبا.

 – لم يهمل بناء شبكة واسعة من العلاقات مع دول المنطقة يستخدمها عند اللزوم لتتحوّل إلى دروع واقية لسياساته ومصالحه، تحميه من الغرب كما هو حاصل اليوم في ملفّ الأزمة الأوكرانية.

– عقد هدنة طويلة الأمد مع أميركا واكبها غزل منقطع النظير مع الرئيس السابق دونالد ترامب في ملفات ثنائية وإقليمية عديدة تقاطعت فيها المصالح.

– قَبِل ارتداء فستان السواريه الغربي للسيّدات الروسيّات عند الضرورة، لكنّه أبقى قميص الروبيخا الروسي دائماً في جعبة الرجال.

– فتح الطريق أمام شبكة علاقات شخصية مع جورج بوش الابن الأميركي وسيلفيو برلسكوني الإيطالي وغيرهارد شرويدر الألماني ورجب طيب إردوغان التركي وبنيامين نتانياهو الإسرائيلي في وقت واحد، وهذه خصوصيّة الدبلوماسية الغربية التي أتقنها إلى جانب براغماتيّته المتفوّقة.

ربّما يكون من سخرية القدر أن نرى دول المنطقة تتحرّك للتوسّط في نزاع أوروبي بين روسيا وأوكرانيا أو للحؤول دون مواجهة روسية أميركية كي تحمي مصالحها مع الطرفين.

يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشرعن الغزو المتواصل لأراضي الجارة أوكرانيا متسلّحاً بتاريخ سوفياتي حافل بالتمدّد والانتشار. يريد بوتين تقليد ليونيد بريجنيف الذي اخترق دول أوروبا الشرقية التزاماً بتعليمات العقل المخطّط جوزف ستالين

التراخي الأميركي

استغرب الجميع تكرار القيادة الأميركية أكثر من مرّة أنّها لن تتدخّل عسكرياً لمواجهة القوات الروسية إذا ما قرّرت دخول أوكرانيا. التفسير الأول لِما يجري كان التخاذل والتخلّي عن الرئيس فولوديمير زيلينسكي في مواجهة الدبّ الروسي. أعطى بوتين أوامره فدخلت قواته بثقلها لتدكّ وتدمّر المدن الأوكرانية وتتسبّب بأكبر حرب تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الجيش الروسي قادر طبعاً على حسم المعركة لمصلحته، وهو المتفوّق عسكرياً عشرات الأضعاف على القوات التي تواجهه. بالنسبة إلى الغرب الموحّد وراء القرار الأميركي، ليست المشكلة اليوم هي هزيمة أوكرانيا، بل استراتيجية الاستفادة من الحدث لإنزال ضربة قاضية تطيح ببوتين وسياساته ومخطّطاته الإقليمية.

قد تعزّز نتائج العملية العسكرية من نفوذ وهيمنة بوتين على السلطة السياسية في روسيا، لكنّها قد تتحوّل أيضاً إلى “بوميرانغ” ضدّه إذا ما نجح الغرب في محاصرة روسيا وعزلها اقتصادياً وماليّاً.

هذا ما يعرفه جيّداً الرئيس الروسي الذي بنى استراتيجية التعاطي مع الملفّات باتجاهين، أحدهما هجومي والآخر دفاعي في الوقت نفسه.

– سياسة هجومية عسكرية على الأرض ضدّ أوكرانيا مع التلويح بورقة استهداف كلّ مَن سيحاول العرقلة.

– ودفاعية باتجاه تحصين الداخل الروسي لمواجهة الضغوطات الغربية والدولية على بلاده.

صمود بوتين وانتصاره لن يكونا في أوكرانيا، بل في معركته الحقيقية مع الغرب على جبهات مواجهة أكبر وأوسع وأهمّ في المرحلة القادمة.

يواصل الغرب اتّخاذ التدابير الاقتصادية والماليّة والسياسية في مواجهة روسيا لعزلها وإضعاف موقفها وتأليب الداخل الروسي على قيادته وتحريك النواب الروس “الانتهازيين”، كما يصفهم البعض في الإعلام الغربي، لتحريضهم على إلقاء بوتين من القطار لإنقاذ بلادهم ممّا ينتظرها.

لن تكون العقوبات وحدها التي تطارد بوتين في الملفّ الأوكراني، بل مسألة التعويضات المالية التي ستطلب من روسيا بدفعها لإعادة إعمار ما هدّمته الطائرات والصواريخ والمصفّحات.

إقرأ أيضاً: ماذا يقول ماضي بوتين عن أفعاله؟

ربّما آخر ما كان يريد الرئيس الروسي سماعه هي الأنباء الواردة من كييف التي تقول إنّ حالة من الفوضى تعمّ محطات القطارات في المدن الأوكرانية المهدّدة بتقدّم القوات الروسية، إذ تستعدّ النساء والأطفال للمغادرة بحثاً عن الأمان بعد وداع أزواجهنّ وآبائهم الذين بقوا لقتال القوات الروسية وحلفائها من المرتزقة الذين أرسلهم بشار الأسد لردّ الدَّيْن.

يبحث “الشاطر” بوتين الآن عن خيارات وبدائل تخرجه من المأزق الذي وضع نفسه فيه. عليه أن يعثر على الجوهرة الثمينة في بطن السمكة كي يصل إلى مراده، وحتى لا نقول له بعد أسابيع إنّ تحريك قواته باتجاه دولة جارة على هذا النحو كان الصنّارة التي غمزت، وإنّ أوكرانيا هي الطعم الذي أعدّته له أميركا.

مواضيع ذات صلة

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…

أكراد سوريا في بحث جديد… عن دور ومكان

لم يعرف الأكراد منذ أن وُجِدوا الاستقرار في كيان مستقلّ. لم يُنصفهم التاريخ، ولعنتهم الجغرافيا، وخانتهم التسويات الكبرى، وخذلتهم حركتهم القومية مرّات ومرّات، بقدر ما…