آمي ماكينون (Amy Mackinnon) – Foreign Policy
لطالما قيل عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنّه لاعب شطرنج ماكر على المسرح العالمي. يتطلّع إلى الأمام ست خطوات مسبقاً ليغتنم كلّ فرصة حين يرتكب خصومه الغربيون خطأ ما، بينما يتّخذ إجراءات صارمة ضدّ أيّ معارضة في الداخل. لكنّ قرار بوتين غزو أوكرانيا مجدّداً وبشكل وحشيّ، الأسبوع الماضي، جعل بعض المسؤولين والمراقبين الغربيين يتشكّكون في الحالة العقليّة للرجل المسؤول عن أكبر مخزون للأسلحة النووية في العالم. وعلى الرغم من أنّه يستحيل معرفة الحالة الحقيقية لذهن بوتين، فإنّ الذين تابعوا سلوك الرئيس الروسي عن كثب على مرّ السنين، قد صدمتهم الطبيعة الغريبة والمظلمة لخطاباته الأخيرة، وذلك حين وصف قادة أوكرانيا بأنّهم “عصابة من مدمني المخدّرات والنازيين الجدد”.
قالت أندريا كيندال تايلور (Andrea Kendall-Taylor)، الباحثة البارزة في مركز الأمن الأميركي الجديد (Center for a New American Security)، والتي عملت سابقاً محلّلةً في الشأن الروسي لدى وكالة المخابرات المركزية: “حَدَث أمر جديد لبوتين، ربّما لم يكن لديه في السابق”.
بعد أسبوع واحد من إعلان بوتين الحرب على أوكرانيا، لم تسِر الحملة الروسية كما هو مخطّط لها
كان بوتين لاعباً مزعجاً بشكل متزايد على مستوى العالم في السنوات الأخيرة. تدخّل في انتخابات دول أجنبية. واستولى على شبه جزيرة القرم. وأرسل فرقاً لاغتيال منتقديه في أوروبا. اعتبره المحلّلون لمدّة طويلة رجلاً انتهازيّاً، لكنّه يحسب الأمور جيّداً. تقول أنجيلا ستينت (Angela Stent)، وهي باحثة بارزة في معهد بروكينغز، وخبيرة في السياسة الخارجية الروسية: “بعدما درسته مدّة طويلة، يتبيّن لي أنّه لم يكن مجازفاً ولا مقامراً من هذا القبيل”. وتضيف: “إذا نظرت إلى حرب جورجيا (2008)، كان من الممكن أن تستولي (القوات الروسية) على العاصمة تبليسي. لم يفعل ذلك. بل ترك (الرئيس الجورجي السابق ميخائيل) ساكاشفيلي في السلطة. في عام 2014، كان بإمكانه تجاوز نهر دونباس في أوكرانيا. لم يفعل ذلك. لذا من الواضح أنّ ما يجري اليوم هو أمر مختلف”.
ما الذي تغيّر؟
بعد أسبوع واحد من إعلان بوتين الحرب على أوكرانيا، لم تسِر الحملة الروسية كما هو مخطّط لها: عانى الجيش من انخفاض الروح المعنوية، وعدم كفاية إمدادات الغذاء والوقود، وعانى من المقاومة الأوكرانية الشرسة غير المتوقّعة. تعرّض الاقتصاد الروسي، الذي كان ازدهاره النسبي في مرحلة سابقة ركيزة أساسية لشعبية بوتين في الداخل، لحزمة من العقوبات الغربية غير المسبوقة على البنك المركزي الروسي وعلى المؤسسات المالية الكبرى. وأعلنت مجموعة من الشركات، من متجر الأثاث السويدي أيكيا (Ikea) إلى شركة الطاقة العملاقة BP، عن خطط للانسحاب من روسيا.
في الأسبوع الماضي، بُعَيد بدء الحرب، غرّد السيناتور الأميركي عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو (Marco Rubio)، العضو الجمهوري الأعلى منصباً في لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ: “أتمنى أن أتمكّن من المشاركة في المزيد، لكن في الوقت الحالي يمكنني القول إنّه بات واضحاً جدّاً لكثير من الناس أنّ شيئاً ما قد انتهى بالنسبة إلى بوتين. لقد كان دائماً قاتلاً. لكنّ مشكلته الآن مختلفة وكبيرة. سيكون من الخطأ افتراض أنّ استجابة بوتين (في أزمة أوكرانيا) كانت ستكون نفسها قبل 5 سنوات”.
رفض مجلس الأمن القومي الأميركي الردّ على أسئلة عن وجود مخاوف لدى الولايات المتحدة بشأن الحالة العقليّة للزعيم الروسي، وانعكاساتها على العالم. وفي مقابلة مع قناة ABC يوم الأحد، رفضت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض جين بساكي (Jen Psaki) الإجابة عن السؤال أيضاً، لكنّها أشارت إلى أنّه من الواضح أنّ بوتين “كان معزولاً تماماً أثناء جائحة كوفيد-19”. وأضافت بساكي: “لكنّني سأخبرك. بالتأكيد يثير قلقَنا بشدّة خطابُه وأفعالُه وتبريرُه لتلك الأفعال”.
في الواقع، غالباً ما كان بوتين يختفي عن الأنظار لمدّة طويلة خلال الجائحة. وطُلب من جميع مستشاريه الذين يأملون رؤيته شخصيّاً عزل أنفسهم أسبوعين قبل اجتماعهم به، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام الروسية. حتّى بعد تطوير لقاحات وعلاجات فعّالة لكورونا، استمرّ في الابتعاد مسافة معيّنة لدى لقاء رؤساء الدول وكبار المسؤولين، بما في ذلك الجلوس إلى أحد طرفيْ طاولة طولها 20 قدماً (القدم 30 سنتم) خلال لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. بالطبع، عانى ملايين الأشخاص حول العالم من العزلة على مدار العامين الماضيين بسبب الجائحة، ولم يشنّوا حروباً مدمّرة على جيرانهم نتيجة لذلك.
مع ذلك، صُدم ماكرون من تعلّق بوتين بالتاريخ خلال لقائه في 7 شباط الماضي، مشيراً إلى أنّ سلوك الرئيس الروسي قد تغيّر في السنوات الأخيرة، حسبما ذكرت وكالة رويترز نقلاً عن مصادر في الوفد الفرنسي.
حينذاك استغرق اللقاء خمس ساعات بين بوتين وماكرون في الكرملين، من دون حضور أحد آخر غير المترجم. قدّم الرئيس الروسي مراجعة تاريخية مطوّلة للعلاقات الروسية الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة، متّهماً الغرب بانتهاك التزاماته مع موسكو عام 1997، عندما اتُّخذ القرار بتوسيع الحلف الأطلسي، وضمّ بعض الدول الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية، وهي بولندا، والمجر، وتشيكيا. أغرق بوتين مُحاوِره الفرنسي بالتاريخ في كلامه الأُحادي، فيما كان ماكرون يحاول جاهداً إعادة المسار إلى حدث الساعة، وهو أزمة أوكرانيا قبل الغزو بأسبوعين. لاحظ ماكرون كم تغيّر بوتين مذ التقاه آخر مرّة قبل ثلاث سنوات، عندما استضافه في باريس عام 2019.
سلوك غريب ومريب
يرى آخرون أنّ سلوك بوتين الأخير ليس انحرافاً، بل هو تضخّم للميول التي لوحظت في الزعيم الروسي منذ مدّة طويلة: “ليس دقيقاً أن نراه مجرّد فاعل عقلاني على نحوٍ أداتيّ. لديه أفكار قوية”، يقول بريان تيلور (Brian Taylor)، أستاذ السياسة الروسية في جامعة سيراكيوز Syracuse، ومؤلف كتاب “شيفرة البوتينية” (The Code of Putinism). ويضيف: “لديه مشاعر قاتمة، وكان يعبّر عن تلك المشاعر لمدّة طويلة جداً. وبهذا المعنى، فإنّ هذا المسار ليس مفاجأة كاملة. لكن من الواضح أنّ هذا (الغزو) أكبر بكثير من أيّ أمر فعله من قبل”.
لطالما غذّى بوتين هوساً خاصاً بأوكرانيا، واشتدّ ذلك فقط عندما سعت الدولة الأوكرانية إلى ترسيخ ديمقراطيّتها، والاندماج مع الغرب في أعقاب الثورات في عاميْ 2004 و2014. تقول كيندال تايلور: “لم يعتبر بوتين هذه الثورات غير طبيعية فقط، بل رأى فيها نوعاً من الخيانة، وأنّ جهات خارجية خطّطت لها، وتحديداً الولايات المتحدة”.
أصبحت روسيا أكثر استبداداً بشكل مطّرد طوال عقدين من حكم بوتين، وهو اتجاه تزايد بسرعة خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، مع حملة قمع مكثّفة لوسائل الإعلام المستقلّة، والمعارضين السياسيين، والمجتمع المدني، تهدف إلى القضاء على أيّ بقايا للمعارضة. ويصف العلماء هذا الانحدار اللولبي للأنظمة الاستبدادية بقيادة رجال أقوياء بأنّه “معضلة الديكتاتور”.
ذعر القائد وخوفه
“كلّما أصبح نظامك قمعيّاً، تفاقم ذعر القائد، لأنّ لديه إحساساً أقلّ بما يحدث في المجتمع”، تقول كيندال تايلور: “لديك ثقة أقلّ بأنّ ما يُقال لك هو الحقيقة. يبدو أنّنا في مستوى جديد تماماً من جنون العظمة.”
نظراً إلى الآثار المترتّبة على العالم، فإنّ مجتمع الاستخبارات الأميركية لديه فِرق من الخبراء، بينهم الأطباء وعلماء النفس العاملون في مركز التحليل الطبي والنفسي السرّي التابع لوكالة المخابرات المركزية، وهو مكرّس لتحليل الصحة البدنية والعقلية للقادة الاستبداديين، ومن بينهم بوتين. يستعمل هؤلاء مجموعة متنوّعة من الأساليب، بما في ذلك التدقيق في الخطابات ولغة الجسد، لاكتشاف التحوّلات الطفيفة.
“علم التقييمات غير المباشرة حديث العهد… لكن يبدو صحيحاً أنّ سلوك الشخص في الماضي يُعدّ مؤشّراً موثوقاً به إلى كيفيّة تصرّفه في المستقبل أكثر ممّا يقول إنّه سيفعله في المستقبل”، بحسب ما كتب تشارلز مورغان (Charles Morgan)، الطبيب النفسي الشرعي الذي عمل سابقاً في وكالة المخابرات المركزية، في رسالة إلكترونية إلى مجلّة “فورين بوليسي”.
وهناك المزيد من الأساليب المباشرة أيضاً، إذ يقول جون سيفر (John Sipher)، العضو البارز السابق في الجهاز السرّي بوكالة المخابرات المركزية الأميركية، وكان قد خدم في روسيا: “إنّها مجموعة متنوّعة من التقارير المرسَلة من الأميركيين والمسؤولين الآخرين الذين يلتقون به”.
إقرأ أيضاً: بوتين يوقظ المارد الألمانيّ
لكنّ الحصول على معلومات من الدائرة المقرّبة من زعيم في دول مثل روسيا والصين، تعتبرها وكالات الاستخبارات “أهدافاً صعبة”، قد يكون أمراً صعباً بشكل خاص. قال سيفر: “المصادر لا تنمو على الأشجار، وهذا صعب بشكل خاص في مكان كهذا”.
في هذا الوقت سنلتهي بالبحث عن خطابات بوتين وكلماته، بينما ينتظر العالم ليرى ما الذي سيفعله لاحقاً.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا