سودها ديفيد-ويلب (Sudha David-Wilp) وتوماس كلاين-بروكهوف (Thomas Kleine-Brockhoff).
في أسبوع واحد، تحوّلت ألمانيا جذريّاً. تخلّت عن سياستها الخارجية المتردّدة والحذرة. والتزمت زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير. لقد دفعت صدمة غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا برلين إلى إرسال آلاف المضادّات للدبّابات والطائرات إلى كييف. ومن دولة ينتقدها حلفاؤها لأنّها لا تفعل إلا القليل في المجال الدفاعي، أو تتحرّك دائماً بعد فوات الأوان، إلى دولة تقف الآن في المقدّمة لاحتلال دور قيادي في الأمن الأوروبي. وهي تسعى الآن إلى عزل روسيا ومعاقبتها بعد عقود من استرضائها واستيعابها. وستعمل ألمانيا كذلك جاهدة من أجل استقلالها عن روسيا في مجال الطاقة من خلال إيجاد مصادر طاقة محليّة جديدة أثناء انفكاكها عن إمداداتها الروسيّة.
قال أولاف شولتز (Olaf Scholz)، المستشار الألماني الجديد، في جلسة خاصّة للبرلمان يوم الأحد (27 شباط الماضي): “من الواضح أنّه يجب علينا الاستثمار أكثر بكثير في أمن بلدنا، من أجل حماية حرّيتنا وديمقراطيّتنا”. بخطاب واحد، بشّر شولتز ببدء حقبة من التغيير الهائل لبلد كان مرتاحاً إلى الوضع الراهن على مدى ثلاثة عقود. وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك (Annalena Baerbock): “ربّما تترك ألمانيا في هذا اليوم شكلاً من أشكال ضبط النفس الخاصّ والفريد في السياسة الخارجية والأمنيّة”. لقد أنتج الإرث القبيح للعدوان العسكري الألماني خلال القرن العشرين عقليّة تعتبر الحوار والتعدّدية أداةً أساسيةً، وفي كثير من الأحيان أداةً وحيدةً للسياسة الخارجية الألمانية. كانت جرعة غير صحّيّة من الخوف من الذات في قلب التشكُّك الألماني في القوّة الصارمة. وكان الهدف من التحالفات، التي تعقدها برلين، هو احتواء الآخرين تماماً كما كبحت هذه التحالفات الألمان، الذين لم يخشوا في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية أكثر من إغراء متجدّد نحو الأحاديّة نحو ألمانيا السادسة المسلّحة.
غزو بوتين لأوكرانيا قد يمثّل اللحظة التي أصبحت فيها أوروبا ما بعد الحرب مرتاحة أخيراً إلى القوة العسكرية الألمانية
لم تكن حكومة يسار الوسط الجديدة في برلين تنوي التخلّي أبداً عن نهج السياسة الخارجية للمستشارة السابقة أنجيلا ميركل، المتمثّل في موازنة الاحتياجات الأمنيّة مع المصالح التجارية أو تغيُّر مزاج ألمانيا بعد الحرب العالمية بشأن النفور من الصراعات العسكرية. لكنّ غزو روسيا لأوكرانيا غيّر كلّ شيء بالنسبة إلى ألمانيا. المؤرّخ فريتز شتيرن (Fritz Stern)، الهارب من الهولوكوست عندما غادرت عائلته ألمانيا متوجّهة إلى الولايات المتحدة في عام 1938، كتب ذات مرّة عن “خمس ألمانيات” عرفها في حياته: جمهورية فايمار، ألمانيا النازية الرايخ الثالث، ألمانيا الغربية بعد الحرب، ألمانيا الشرقية، وألمانيا الموحّدة التي ظهرت بعد سقوط جدار برلين عام 1989. ما يشهده العالم الآن هو ولادة ألمانيا السادسة، دولة مستعدّة لممارسة القوّة العسكرية دفاعاً عن القيم الديمقراطية الليبرالية.
على مدى الأيام القليلة الماضية، سقطت فوراً محرّمات سياسية قديمة. أمّا توقُّفُ التصديق على خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي “نورد ستريم 2” الذي اكتمل في أيلول الماضي، وإرسال أسلحة فتّاكة إلى أوكرانيا، فهما من الارتدادات الملحوظة. والأهمّ من ذلك، أنّ ألمانيا قد أُصيبت بصدمة حين أدركت أخيراً أنّ القوّة الصارمة هي أداة ضرورية لحماية الديمقراطية وردع المستبدّين الحاليّين.
لعقود من الزمان كان الطرح الدائم للسياسة الخارجية الألمانية هو أنّه لن يكون هناك سلام في القارّة إذا اُستُبعدت روسيا. تضمّنت هذه العقيدة فكرة أنّ الاعتماد الاقتصادي المتبادل سيساعد في الاستقرار. وهو ما دفع إلى ممارسة صبر لا نهاية له مع الكرملين، حتى بعد خطاب بوتين العدواني في مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2007، عندما اتّهم الولايات المتحدة بزعزعة استقرار الأمن العالمي. واستمرّت سياسة الصبر بعد غزو بوتين لجورجيا في عام 2008، وحتى أوكرانيا في عام 2014. وعلى الرغم من أنّ ألمانيا قادت الحملة الأوروبية لفرض عقوبات على موسكو بعد ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم، وتوغّلها في إقليم دونباس الأوكراني، إلا أنّها سرعان ما وازنت برلين هذه التحرّكات مع عرض بناء “نورد ستريم 2” في عام 2015.
حتّى مع الضغوط التي مارسها حلفاء الناتو وزعماء أوكرانيا في ذلك الحين على برلين، بدا أنّ من غير المعقول أن تتخلّى ألمانيا عن رفضها تزويد كييف بالأسلحة. وفي وقت سابق من هذا العام، أشارت وزيرة الخارجية الألمانية بربوك إلى الدروس المستفادة من التاريخ: “إنّ إمداد منطقة بالأسلحة كانت القوات الألمانية قد قتلت فيها ملايين المواطنين خلال الحرب العالمية الثانية، لن يؤدّي إلا إلى مزيد من الشعور بالذنب”. وذلك حسبما جادلت في مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط الفائت. لكنّ حرب بوتين العدوانيّة غيّرت كلّ شيء في غضون ساعات. فحرمان الأوكرانيين من الأسلحة الدفاعية (مثل القذائف الصاروخية)، يعني غضّ النظر عن مبدأ التمييز بين الجاني والضحيّة. ربّما تكون روسيا قد ساعدت في هزيمة النازيين، لكنّها الآن في الجانب الخطأ من التاريخ.
يوم الأحد (27 شباط الماضي)، أعلنت الحكومة الألمانية بعبارات لا لبس فيها أنّها ستواجه بوتين، وستدافع بقوّة عن الليبراليّة. ربّما كان شولتز في لحظة نقد ذاتي عندما دعا إلى دبلوماسية ألمانية من دون سذاجة. انتهى التفاؤل بإمكانيّة إقناع القوى التحريفيّة بأسلوب “Wandel durch Handel”، أي التغيير من خلال التجارة. فما دام بوتين رئيساً في روسيا، ستظلّ أداة السياسة الخارجية هذه من مخلّفات الماضي. وبدلاً من ذلك، تعمل ألمانيا كلّها على ردع بوتين في سعيه إلى تغيير ميزان القوى في أوروبا.
لعقود من الزمان كان الطرح الدائم للسياسة الخارجية الألمانية هو أنّه لن يكون هناك سلام في القارّة إذا اُستُبعدت روسيا
تغيير مُكلف
إنّه تحوُّل باهظ الثمن، خاصة بالنسبة إلى قطاع الطاقة المعتمِد على الاستيراد. ولكن كما قال وزير المال كريستيان ليندنر (Christian Lindner) من الحزب الديمقراطي الحرّ المحافظ اقتصادياً للبرلمان، إنّه “ثمن الحرّية”. أعلن شولتز أنّ ألمانيا ستصبح مستقلّة عن الطاقة الروسية. ستقوم ألمانيا ببناء ميناءين للغاز الطبيعي المسال (LNG) على الفور، وتخزين الاحتياطات الوطنية من الفحم والغاز، وإبرام المزيد من عقود التسليم الطويلة الأجل في سوق الطاقة الدولية، وزيادة تسريع إنتاج الطاقة المتجدّدة، لضمان “حريّة الطاقة” على حدّ تعبير ليندنر. ولضمان طاقة احتياطية كافية، قد تستمرّ محطّات الطاقة النووية المتبقّية في ألمانيا بعد نهاية عام 2022، وهو كان الموعد السابق للتخلّص منها. وكلّ ذلك يعتمد على ما إذا كانت روسيا ستردّ بخفض إمداداتها من الغاز الطبيعي.
عندما أعلن شولتز عن استثمار دفاعي لمرّة واحدة بقيمة 100 مليار يورو في الجيش الألماني، مع الإفصاح عن نيّة جعل الإنفاق الدفاعي أكثر من 2% من الناتج الاقتصادي الإجمالي، وهو الهدف المحدّد للدول الأعضاء في الناتو، فاجأ بذلك قطاع السياسة الخارجية، والبلد كلّه، وحتى الكثير من أعضاء كتلته البرلمانية الذين لم يكونوا مطّلعين على هذا القرار المفاجئ. أوضح شولتز أنّ ألمانيا لا تحتاج فقط إلى طائرات تطير، وسفن تبحر، وإلى جنود مجهّزين على نحوٍ جيّد. ولكن تحتاج إلى قوّات مسلّحة حديثة تماماً. وفي خطابه، طرح المستشار الألماني ما كان مثيراً للجدل ذات مرّة، مثل استخدام المسيّرات المسلّحة، والمشاركة في ترتيبات الأسلحة النووية لحلف الناتو. حتى إنّ شراء طائرات مقاتلة أميركية الصنع من طراز إف-35، عاد إلى الطاولة. في الوقت نفسه، أكّد شولتز الالتزام ببناء طائرة مقاتلة من الجيل السادس، نظام “Future Combat Air System”، التي تطوّرها ألمانيا مع فرنسا وإسبانيا. وأضاف وزير المال ليندنر، ليلة الثلاثاء الماضية (1 آذار الحالي)، أنّ ألمانيا ستحوّل جيشها “إلى إحدى أفضل القوّات المسلّحة في القارّة، من حيث القدرة، والقوّة، والتجهيز”، وهو تصريح كان سيكسبه لقب “داعية حرب” قبل أيام فقط. وفي اختيار رائع للكلمات، تعهّد شولتز “بالدفاع عن كلّ متر مربّع من أراضي الناتو مع حلفائنا”، في إشارة إلى تعهّد الرئيس الأميركي جو بايدن بالدفاع عن كلّ شبر من الحلف. إنّ تصريح شولتز القويّ جدير بالملاحظة بشكل خاص في بلد تُظهر فيه استطلاعات الرأي بعض التردّد بإزاء المادة 5، أي بند الدفاع المشترك في المعاهدة التأسيسية لحلف الناتو، التي تنصّ على أنّ هجوماً مسلّحاً ضدّ دولة عضو، يُعتبر هجوماً ضدّ كلّ الدول الأعضاء. ما هذا الفرق الذي حدث خلال أسبوع واحد!
تبدّل شولتز الضعيف
بدا شولتز، الذي تولّى منصبه في كانون الأول الماضي، أنّه متردّد وحتى ضعيف خلال الأسابيع القليلة الأولى له في المنصب. لكنّ خطابه وقراراته الأساسية بعثت حياة جديدة في حكومته. نهجه الحاسم يسدّ الفجوة بين ألمانيا وشركائها، ويفتح عدداً من الفرص الجديدة في السياسة الخارجية.
إقرأ أيضاً: سيناريو إسقاط بوتين خلال عشر سنوات
هذه ألمانيا الجديدة، التي لم يعِش ستيرن ليراها أو يضيفها إلى مجموعته، ستستخدم أكبر ميزانية دفاعية في أوروبا حتى الآن. هذه المرّة فقط، يرحّب بها جميع جيرانها المباشرين، بل يشجّعونها. لا يقتصر التحوّل على ألمانيا، بل يتغيّر أيضاً تصوّر الآخرين لألمانيا. في عام 2011، قال رادوسلاف سيكورسكي (Radoslaw Sikorski)، وزير الدفاع والخارجية السابق لبولندا، شيئاً بدا استثنائياً في ذلك الوقت: “من المحتمل أن أكون أول وزير خارجية بولندي في التاريخ يقول ذلك، ولكن ها هو: بدأت أخاف أكثر من الخمول الألماني لا من قوّة ألمانيا”. استغرق الأمر 11 عاماً. لكنّ غزو بوتين لأوكرانيا قد يمثّل اللحظة التي أصبحت فيها أوروبا ما بعد الحرب مرتاحة أخيراً إلى القوة العسكرية الألمانية.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا